19/04/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

صديقتي ناهد

ليلى صلاح كاتبة وروائية

بانقضاء هذا العام يتساوى ما قضيته داخل السودان بما قضيته خارجه وأنا بين الإثنين أتأرجح هذا الأسبوع انتهيت من ترتيب إقامتي الجديدة, وهي إقامة سعيت لها بكل حماس كما تعرفين وكنت أعي تماماً أي عزلة أختار, مسترشدة بمقولة “رندوش” صديقتنا الجميلة التي  تنصحنا دائما بأن لا نهاب شيئا وأن نذهب  بعيداً في خياراتنا حد النزق, وهذا بالضبط ما فعلته اذكر وقتها أنني طلبت منك أن لا تخشي علي من ايغالي في الغربة مؤكدة لك اني أستانس بنفسي ولا أمل رفقتها, لمحت في عينيك شفقة وخوف تجاهلتهم والآن لا أنا هنا يا ناهد ولا أنا هناك, أنظر خلفي فارى أيام تسربت, لا اعرف كيف؟ أنظر لاولادي وامسك نفسي حتى لا أسالهم من انتم؟ ومن استبدلكم بصغاري الذين كنت اهدهد نفسي واهدهدهم وأسمعهم يتحدثون لغة غير اللغة التي أحلم ليلا  بها ويفكرون بغير الطريقة التي أفكر بها ولا اعرف كيف يجب أن أشعر وقتها الفخر ام بالخزي ؟ هل نفعتهم ام ظلمتهم؟

واقع في بئر الحيرة, والعزاء أنهم حساسون مثلي يشعرون بوحشتي  وحيرتي ويغلقون باب الظن بالمحبة, أرى حماسهم للمكان الجديد فابتلع خوفي ووحشتي أخرج فادع الطبيعة الغنية تبتلعني علها تهديء من روعي ولدهشتي فإنها تفعل.

اترك نفسي بكلياتي لها تمسح على كل روحي وتهديها ولكن هناك في أقصى أقاصي نفسي مكان صقيع لا شيء قادر على إذابته  .. عندما كنت في الدوحة كنت أحس بذلك لكن كنت أغرق نفسي في بحر الآخرين فأنسيهنا كل شي يجعلك عاريا أمام أقصيك ولا شي يدثرك ولا تستطيع ان تلعب لعبة خداع الذات فهي مرهقة وغير مجدية.

 أين أذهب؟ وأنا أدري يقينا أن حلم العودة مجرد خدعة أخرى للنفس .. فهناك ألم غائر نستلذ به أظن أن الأطباء النفسيين امثالك يطلقون عليه إسما لست مهمومة بمعرفته الآن, لكنني أوغل في عزلتي ربما رغبة مني في النظر لأقاصي ذاتي والتلذذ بتعريتها, أحاول وسط كل هذا إيجاد تعريف جديد لنفسي, أبني صداقات ..أجرب روتين مختلف.. أستنشق أكسجين ملء رئتي وأجلس يوميا لأقلب في دفتر ذكرياتي, الأصدقاء, الأهل, الأحباب, من غدروا ومن طعنوا, من حبوا ومن كرهوا, من دعموا ومن عرقلوا, أحاول أن أوغل  في مسارب روحي حتى  السرية منها.

الذات البشرية عجيبة وغريبة يا صديقتي أما الوطن فقد تاه  تعريفه عندي, سأحاول أن أقطع هذا الوشاج الغبي علني أتحرر الوجع الذي يلتهم روحي لا أجد له إسما (شحتفة الروح ) ربما؟ لكن الحمد لله أن هناك دائما متسع للفرح .. شكرا أيتها المتع الصغيرة, و الذكريات هي من تعرفني الآن ..لكنني لا أثق بها كثيرا لأنها الوجه الآخر للحنين الذي  خبرته وأعرف حيله المضللة وأينما وجدت الذكريات وجد الحنين!  أحاول أن أخلق شيئا يجعل لي جذورا في الأرض فاستيقظ واركض لارمي بخور التيمان والقرض في موقد الكهرباء وانا أزيح الدخان حتى لا يصرخ جرس الحريق فيفضح نزقي أهدا قليلا ثم أركض مرة أخرى وأحرق الحليب لأستنشق دخان اللبن المقنن وأتكوم في ركن قصي وكأس الشاي في يدي دخانها يصنع أشكالا تغرقني في الحنين.

ناهد.. أنا لا أكرة خياري بل أحبه وأستلذ بوجعي وأعشق عزلتي العالية وأذكرك أنت وآخرين انطبعت في عقلي وقلبي وأشعر بالامتنان  على التجارب المختلفة التي أتاحها الله لي لأنظر من النافذة للغابة التي بدأت أوراق أشجارها في التساقط مع دخول الشتاء وأفرح كثيرا لأن ذلك يعني أن الدفء قادم في الطريق مهما طال الصقيع .. صديقتك ليلى.