29/03/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

مقتطفات من كتاب”الولايات المتحدة وتجارة الرقيق في وادي النيل في القرن التاسع عشر.”

بقلم الصحفي محمد علي صالح


قبل فترة، ناقش نادى الكتاب السوداني بواشنطن كتاب “الولايات المتحدة وتجارة الرقيق في وادي النيل في القرن التاسع عشر.”كتب الكتاب المرحوم د. احمد الأمين البشير، الذي كان أستاذا في جامعة “دى سى” (في واشنطن العاصمة). وترجمه د. عبد الرحيم محمد صالح، الأستاذ في الجامعة الامريكية (في واشنطن العاصمة)، والمرحوم الإعلامي محمدالله عجيمي.

نشر د. صالح الكتاب، ويوزعه، وأهدى الترجمة الى “جولين”، ارملة المؤلف، وولدهما “طارق”، وبنتهما “هنادي.”

الأديان والرقيق:

بدا الكتاب بالأتى:

“بنهاية القرن الثامن عشر، كان الكتاب المسيحي المقدس (التوراة والانجيل) هو صاحب السيادة كمصدر أساسي للمعلومات، والتوجيه، والإرشاد الروحي في العالم الغربي.

في الولايات المتحدة، استشهدت البيض الأكثرية بمقتطفات منه لتبرير، او ادانة، الإبادة المخططة ضد السكان الأصليين (الهنود الحمر). ولاستمرار استعباد الافارقة (الزنوج). كانت تلك قمة العبقرية الامريكية التي توفق بين المثالية، من جهة، والرأسمالية الاستغلالية العنصرية، من جهة أخرى.”

توجد في الكتاب المسيحي المقدس (التوراة) “لعنة نوح”، بان كنعان (حفيده، ابن حام) سيكون عبدا الى الابد. وقول نوح لابنه حام: “الآن، لا أستطيع ان أنجب الولد الرابع الذي كنت سأجعل اطفاله يخدمونك. إذا، لابد ان يكون مولودك الأول، كنعان، هو الذي يستعبدونه … أطفال كنعان سيكونون رميمين وسودا … وشعر احفادك سيكون ملفوفا مجعدا … وسيمشون عراة، ورجالهم سيكونون طوالا طولا مخجلا.”

ويوجد في الكتاب المقدس (الانجيل)، اعتراف النبي عيسى بوجود الرقيق. وقال انهم سيدخلون الجنة قبل اسيادهم. وان الاسياد والعبيد، في نهاية المطاف، هم عبيد الله. (في الولايات المتحدة، في القرن الثامن عشر، استعمل معارضو الرقيق هذه الإشارات في دعوتهم لإلغاء الرقيق).

بالنسبة للرقيق في القرآن، استعمل الكتاب كلمة “اقر”، والتي يمكن ان تكون “اعترف”، وأيضا “وافق.” نعم، اعترف القرآن بوجود الرقيق، لكنه لم يوافق عليه. بل دعا الى عتق الرقيق. ومنعه، حتى بالنسبة لغير المسلمين (اهل الذمة).  وبالنسبة للرقيق أسري الحروب، دعا القرآن الى حسن معاملتهم، وأيضا عتقهم. وكرر القرآن مرات كثيرة مساواة الرقيق مع اسيادهم امام الله.

وادي النيل:

عكس تجارة الرقيق في الولايات المتحدة، كانت تجارة الرقيق في وادي النيل، من قبل تأسيس الولايات المتحدة (عام 1776)، تشمل البيض والسود.  وكانت الأفضلية للبيضاوات. ثم الحبشيات السمراوات، والرجال السود، والرجال المخصيين، وفى الأسفل السوداوات.

كان جورج بالون (انجلش) اول أمريكي زار السودان (عام 1821)، وكتب عن تجارة الرقيق. كان أسلم، ودخل السودان مع الغزو التركي المصري بقيادة إسماعيل باشا، في عهد والده محمد علي باشا.

وصف الأمريكي حملة لاصطياد الرقيق في جبال كاكي (قرب سنار). لكنه “فشل في ابداء أي عاطفة، او التعبير عن أي ادانة لغزو السودان، او استعباد الشعوب الوثنية.”

في عام 1831، نشر القس ميشيل رسل، أمريكي اخر، كتاب انطباعاته في وادي النيل. وكتب عن تجارة الرقيق. وقال ان الاثيوبيات، في أسواق الرقيق في القاهرة، كن يفضلن على غيرهن من الافريقيات. وذلك لان ملامحهن كانت اقل افريقية (لسن ذوات حجم كبير، وشفاه غليظة، وارداف ممتلئة). كانت ملامحهن أقرب الى بيضاوات الغرب، رغم سوادهن.

شاهد القس الأمريكي، أيضا، الاماء البيضاوات القادمات من بلاد القوقاز. لكن، “لم يكن لجمال الاماء القوقازيات أهمية عالية بالنسبة للأوربيين الزائرين.”

مثل زميله الأمريكي، لم ينتقد القس رسل، وهو رجل دين، تجارة الرقيق تلك، وبدا لهما وكان الامر عادى جدا.

مثلهما كان بيارد تايلور، شاعر ودبلوماسي أمريكي، زار السودان عام 1852، وكتب بانه “ليس هناك دليل في وادي النيل ان العنصر الزنجي قد انجز أيه حضارة …” وقال ان كثيرا من قبائل شمال السودان نزحت من جزيرة العرب، ولم تختلط بقبائل ما وراء سنار “التي كان ينظر اليها بصفتها أفضل قليلا من البهائم المتوحشة.”

هكذا، في كتابات الاميركيين، لم يكن الشيء الهام هو “قانونية او عدم قانونية تجارة الرقيق، بل جدارة العنصر الزنجي، ومساهماته، او عدم مساهمته، في إنجازات الجنس البشرى.”

مارك توين:

كان مارك توين من أشهر الادباء الأمريكيين في القرن التاسع عشر (توفى عام 1910). وكاتب روايتى: “مغامرات توم سوير” و “مغامرات هكلبيرى فن”. وفيهما “جيم” الأسود، الذي وصفه بانه “نيغر” (زنجى).

بعد ربما مائة سنة، انتقد ناقدون الروايتين، ووصفوا مارك توين بانه عنصري. لكن، لم يكن مارك توين غير واحد من ربما كل بيض أمريكا الذين اعتبروا السود ولا حتى مواطنين، ناهيك عن الاختلاط بهم، وناهيك، لا قدر الله، عن زواجهم منهم.

في عام 1869، نشر مارك توين كتاب “أبرياء في الخارج”، عن جولته في الشرق الأوسط. وكتب عن سوق الرقيق في القاهرة: “اجود الأصناف الشركسية (من بلاد القوقاز الروسية) ثمنها 250 دولارا. الاجود منها، الجورجية (من جمهورية جورجيا الروسية) ثمنها 300 دولار. لكنها لم تكن متوفرة.  ثم الافلاوية (من رومانيا)، جميلة عمرها 19 عاما، وثمنها 150 دولارا.”

مثل غيره من الرحالة الاميركيين، لم ينتقد مارك توين تجارة الرقيق. وخاصة تجارة المسلمين والسمر والسود للفتيات البيضاوات، في وقت كان فيه الامريكيون يحرمون على هؤلاء الإساءة للبيضاوات، ناهيك عن ممارسة الجنس معهن، وناهيك عن امتلاكهن.

في عام 1869، زار الفان سواثيرت، صحفي مع صحيفة “نيويورك هيرالد”، السودان. وكنب بان تجارة الرقيق في الخرطوم كانت أساس الاقتصاد في ذلك الوقت.

كانت البنوك تقرض تجار الرقيق، مع أرباح مائة في المائة في العام، لشراء الرقيق. وكان تجار الرقيق في الخرطوم يحتكرون مناطق خاصة بهم في أطراف جنوب السودان (خاصة على النيل الأبيض).

كل عام، كان 25,000 رقيقا تقريبا يصلون الى القاهرة (رجالا ونساء وصبيانا، مع وفاة كثير منهم في الطريق، على طول وادى النيل، او بطريق الأربعين. وكان يعضهم يرسل الى الجزيرة العربية عبر البحر الاحمر).

كانت الفتاة الاثيوبية هي الأعلى سعرا (300 دولارا). ثم الزنجي من منطقة النيل الأبيض (150 دولارا). ثم الزنجية من هناك (60 دولارا.

فعلا، اشترى الصحفي الأمريكي اثيوبية من سوق الرقيق في الخرطوم، ثم عتقها، واستخرج أوراق الحرية لها من القنصلية الامريكية في الخرطوم.

رقيق المسلمين:

كان واضحا ان تركيز الرحالة الأمريكيين على تجارة الرقيق في وأدى النيل فيه تغاضى عن تجارة الرقيق الكبرى الى اميركا، عبر المحيط الأطلسي.  وكان واضحا ان فيها نقدا أكثر لممارسات المسلمين. 

سبقهم في ذلك جوهان بيرخارت، الرحالة السويسري (توفى عام 1814، في القاهرة). كتب: “شاهدت مناظر من أكثر الخجل والاحتقار.  كان تجار الرقيق (المسلمون) يفرحون ويتندرون وهم يمارسون الجنس مع فتيات صغيرات في السن. أستطيع ان أقول ان نسبة قليلة جدا من فتيات أعمارهم في حدود عشرة سنوات، وصلن الى مصر، او الى الجزيرة العربية، وهن عذراوات.”

وكتب ديفيد ليفنغستون، رجل دين ومكتشف بريطاني (توفي عام 1873)، عن تجارة الرقيق في شرق افريقيا التي كان يديرها مسلمون من الخليج: “شاهدت افريقية مقتولة، معلقة من شجرة.  قالوا لنا ان تاجر الرقيق العربي (المسلم) امر بذلك لأنها كانت بطيئة في المشي، وتعمد قتلها حتى لا يستفيد منها تاجر رقيق منافس له.”

في كل الحالات، ساهمت كتابات الرحالة عن الرقيق في افريقيا في توعية مواطنيهم في اروبا وأميركا. ورغم استغلال غربيين للعبارات السابقة في الكتاب المسيحي المقدس لتبرير تجارة الرقيق، استعمل غيرهم عبارات تمنع امتلاك شخص لشخص. 

في عام 1803، كانت النرويج والدنمارك اول دولتين غربيتين تمنعان تجارة الرقيق.  وفي عام 1807، منعتها بريطانيا. وفي عام 1820، منعها قانون أمريكي أصدره الكونغرس. وفي عام 1848، منعتها فرنسا.  وفي نفس العام، منعتها الخلافة التركية العثمانية، تحت ضغوط أوروبية.

لكن، منع تجارة الرقيق عبر الدول لم يوقف تجارة الرقيق داخل دول عربية وافريقية (مثل التي كانت في سوق الرقيق في الخرطوم).  ولم يوقف الامتلاك الفردي للرقيق.

القنصليات الامريكية:

بالإضافة الى كتب الرحالة، وتقارير الصحفيين، كتب كثير من ممثلي الحكومة الامريكية في القاهرة والخرطوم، في ذلك الوقت، عن تجارة الرقيق. وكرروا عدم ثقتهم في ان خديوي مصر يريد تطبيق القوانين الأوربية الجديدة بمنع تجارة الرقيق.

لكن مثل غير الحكوميين، لم يكتب هؤلاء الحكوميين ادانات واضحة. 

في عام 1848، في اول رسالة من القنصلية الأميركية في مصر الى وزارة الخارجية في واشنطن، إشارة الى ان الخديوي استورد ألف رقيق من السودان، ليعملوا حرسا خاصا له. وبدون ادانة، كتب القنصل الأمريكي: “أكثر ما يلفت النظر في هؤلاء الحرس انهم نوبيون عمالقة، اجسامهم ضخمة، وتغطيها دروع من الحديد، مثل التي كان يستخدمها الصليبيون الأوائل. يبدو على وجوههم عبوس وصرامة.  وجوه سوداء، وعيون بيضاء، ودروع، وسلاسل ذات أصوات صاخبة.”

في عام 1963، كتب وليام ثاير، القنصل الأمريكي في مصر، رسالة خاصة الى وليام سيوارد، وزير الخارجية الامريكية. عن حملة الخديوي لاعتقال زنوج في شوارع القاهرة والإسكندرية، وتجنيدهم اجباريا.

كتب القنصل: “تذكرنا هذه الممارسات بممارسات تجارة الرقيق الافريقية (في الولايات المتحدة).  وتشكل هذه الممارسات انتهاكا لكرامة الانسان … لكن، طبعا، لا نقدر على ان نقول ذلك للحكومة المصرية بصورة رسمية.”

النفاق الأمريكي:

علق د. احمد الأمين البشير، الذي كان أستاذ التاريخ في جامعة “دى سى” في واشنطن، في كتابه هذا، على هذه الرسالة، وعلى رسائل أخرى مثلها، بالآتي:

“تسلط هذه الرسالة الخاصة (الشخصية) الضوء على حقيقتين:

أولا: وجود أوامر واضحة غير مكتوبة بالابتعاد عن مناقشة قضايا معينة.

ثانيا: سياسة ازدواج المواقف، او النفاق السياسي، التي تسمح للمسئولين الاميركيين بمناقشة تجارة الرقيق في مصر سرا. وان يتحاشوها حين يتحدثون مع رصفائهم المصريين.”

ثم يتحدث الكتاب عن “من اللامبالاة الى التسوف” في السياسة الأميركية نحو تجارة الرقيق في وادي النيل. ويقول الكتاب: “اقر ثابر (القنصل الأمريكي) بوجود تفرقة عنصرية في الولايات المتحدة … وما يشعر به مهاجرو اروبا الجدد الجهلة (بدون إشارة الى التفرقة العنصرية ضد السود).”

من المفارقات ان الأمير حليم باشا (ولى العهد في مصر) تناقش مع القنصل الأمريكي عن هذه الموضوع. و”تفاخر” بان الرقيق الأسود في مصر يقدر على ان يتزوج ابنه سيده.

وطبعا، لم يكن هذا هو الحال في الولايات المتحدة.

تكررت “اللامبالاة والتسويف” في عهد القنصل الجديد، شارلز هيل، الذي كتب في عام 1865 عن أميركية بيضاء كان لها خدم وخادمات سودانيون. وطلبت من القنصل وضعهم تحت الحماية الامريكية. 

وكتب القنصل: “هؤلاء الزنوج ليسوا رعايا عثمانيين، ولا مصريين. ولا يمكنهم العيش في امان في مصر الا تحت رعاية دولة غربية، من الفرنجة.”

لكنه رفض الطلب “بسبب تعليمات من وزارة الخارجية (الامريكية) بان الحماية الأمريكية تطبق فقط على المواطنين الأمريكيين، وموظفي القنصلية.”

خلاصة:

كتب د. البشير في نهاية كتابه: “كانت ردود فعل المبشرين الأمريكيين لتجارة الرقيق في وادي النيل تشبه ردود فعل ممثلي الحكومة الامريكية.  فضلوا السياسة النفعية على السياسة الاخلاقية. لكن، يمكن تبرير موقف المبشرين أكثر من تبرير موقف الرسميين، وذلك لأن المبشرين كانوا يعملون في بلد معظم سكانه مسلمون ينظرون إليهم نظرة عداء. لهذا، لم يكن امام المبشرين غير التعامل مع موضوع الرقيق في حذر.”