ماذا يحدث في إثيوبيا بعد اغتيال الفنان الشهير هونديسا؟
محمد مصطفى جامع
تسببت حادثة اغتيال الفنان الإثيوبي المعارض هاشالو هونديسا في انفجار موجة جديدة من العنف والصراع الداخلي في البلد الواقع شرق إفريقيا بعد فترة من الهدوء النسبي، رغم أن الاحتقان السياسي يسود منذ مدة ليست بالقليلة، لكن ما الذي يجري في إثيوبيا منذ اليوم الأخير من شهر يونيو/حزيران الماضي؟ ولماذا يشهد هذا الشهر بالتحديد أحداث عنف وصراع داخلي في إثيوبيا طيلة الـ3 أعوام الماضية؟
في أواخر يونيو من العام قبل الماضي وبعد فترة قليلة من انتخاب آبي أحمد رئيسًا للوزراء، انفجرت قنبلة في تجمّع حضره أحمد في العاصمة أديس أبابا، مما دفع البعض لاستنتاج أنها محاولة لاغتيال رئيس الوزراء الجديد “آنذاك”، وقد أسفر الانفجار عن 83 جريحًا لكن من دون سقوط قتلى.
العام الماضي وفي التاريخ ذاته وقع حادثان متزامنان، أولهما محاولة انقلابية في إقليم أمهرا شمال غرب البلاد، أدت إلى مقتل حاكم الإقليم أمباتشو ميكونن واثنين من كبار مساعديه، وفي العاصمة أديس أبابا اغتيل رئيس أركان الجيش الجنرال سعري ميكونن ومساعده الجنرال جيزا أبيرا، تسببت هذه التطورات المؤسفة في حملة اعتقالات وتشديد الإجراءات الأمنية وقطع شبكة الإنترنت لعدة أيام عن كامل أنحاء البلاد.
تظاهرات فورية بعد اغتيال هونديسا
في العام الثالث من حُكم آبي أحمد من يونيو/حزيران الماضي استمرّت الاضطرابات، فلم يكن يوم الـ30 من يونيو/حزيران الماضي يومًا عاديًا، إذ استيقظت البلاد على خبر أليم ومفجع هو اغتيال الفنان الشهير هاشالو هونديسا.
فور انتشار خبر مقتل هونديسا بعد أن أطلق مسلحون مجهولون عليه النار، خرجت تظاهرات غاضبة في العاصمة أديس أبابا ومعظم أنحاء إقليم أوروميا، فقد كان الفنان الراحل يمثل صوت قطاع عريض من قومية الأورومو خلال سنوات الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي أوصلت رئيس الوزراء آبي أحمد إلى السلطة عام 2018.
وكان هونديسا البالغ من العمر 34 عامًا قد برز كصوت سياسي قوي لشعب الأورومو، مما خلق له الكثير من الأعداء في أثناء مسيرته الفنية. حيث تقول سيرته الذاتية إنه وُلد عام 1986 في مدينة أمبو التي تقع على مسافة 100 كيلومتر إلى الغرب من أديس أبابا، وهو واحد من 8 أشقاء وشقيقات.
زاد تدهور العلاقة بين جوهر وآبي بعد أن حذر الأخير خلال خطاب له أمام البرلمان، من أولئك الذين يملكون وسائل إعلام وليست لديهم جوازات سفر إثيوبية.
احتفظ باستقلاليته بعد صعود آبي أحمد
بعد خروجه من السجن استمر الراحل في تأدية أغنياته الثورية، ولم يتخل عن مبادئه بعد صعود ابن قوميته “آبي أحمد” إلى السلطة، فعندما دُعي هاشالو لإحياء حفل أُقيم على شرف استقبال الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي في أول زيارة قام بها إلى إثيوبيا بعد اتفاق السلام، غنّى الفنان المغدور عن ضرورة تحقيق العدالة للناس الذين فقدوا أرواحهم في القتال الذي جرى في شرقي إثيوبيا بين الأورومو والصوماليين، وتساءل عن صحة إقامة الحفل بينما تؤبن الأسر موتاها.
أثار تعليق هاشالو والأغنيات التي أداها في الحفل حنق مسؤولين حكوميين رأوا أن الفنان لم يوفق في اختيار الأغنيات وفي تعليقه، ولكن ما جرى في ذلك الحفل زاد من شعبيته وسط الجماهير باعتباره رجلًا مخلصًا لمبادئه وأنه لم يتملق رئيس الوزراء آبي أحمد ولا المسؤولين النافذين، رغم أن تلك الفترة من عهد آبي تميزت باكتسابه شعبية هائلة وسط أبناء قوميته “الأورومو”، بالأخص ووسط قومية الأمهرا أيضًا إلى جانب عدد من أبناء القوميات الأخرى عدا أبناء قومية تيغراي الذين يسكن أغلبهم في الإقليم الذي يحمل الاسم ذاته وتحكمه جبهة تحرير تيغراي المؤسِسة للائتلاف الذي حكم إثيوبيا طيلة الـ28 عامًا الماضية.
توسع نطاق المعارضة ضد آبي أحمد
إلا أن المشهد سرعان ما تبدل تدريجيًا، فقد اختار الإعلامي والسياسي البارز جوهر محمد مؤسس “شبكة أوروميا” الإعلامية أن يتحول بشكل رسميّ إلى صفوف المعارضة رغم العلاقة الطيبة التي كانت تجمعه مع ابن قوميته آبي أحمد، وبدأت العلاقات تتدهور بين الرجلين عقب انتقادات وجهها جوهر لآبي أحمد قائلًا إنه يحاول إنشاء حكم ديكتاتوري في إثيوبيا، كما وجّه انتقادات أخرى لإصلاحات رئيس الوزراء وهو ما أثار امتعاض آبي أحمد.
زاد تدهور العلاقة بين جوهر وآبي بعد أن حذر الأخير خلال خطاب له أمام البرلمان من: “أولئك الذين يملكون وسائل إعلام وليست لديهم جوازات سفر إثيوبية ويلعبون ألعابًا ملتوية، تجدهم في فترات السلم ويغيبون في فترات الاضطرابات”. والكلمات كان واضح أنه يقصد بها جوهر الذي يحمل جواز سفر أمريكي.
لعل البعض يتساءل الآن ما علاقة الفنان الراحل هاشالو بجوهر محمد وهذا التصعيد؟
الواقع أن جوهر يمتلك تأثيرًا كبيرًا وسط الأورومو، خاصة فئة الشباب التي ينتمي إليها فنان الثورة الراحل، فهاشالو يعتبر نفسه جزءًا أصيلًا من هذا الحراك، كما أن شباب الأورومو يعتبرون الراحل صوتهم الذي يعبر عن معاناتهم بموسيقاه الرائعة، لذلك جاء كل هذا الحزن الشديد عليه لتتطور التظاهرات المناوئة للحكومة إلى مواجهات مع الأمن لتشمل معظم أنحاء إقليم أوروميا.
أما دوافع اغتيال الفنان أو الجهة التي نفذت الجريمة فلا أحد يعلم شيئًا حتى الآن، حيث اكتفت الشرطة الإثيوبية بالقول إنها اعتقلت مشتبهًا بهم في الجريمة، وكان المغدور قد كشف في مقابلات إعلامية سابقة تلقيه تهديدات بالقتل، وكان لا يتردد في توجيه الانتقادات القوية لحكومة آبي أحمد، وكذلك لأباطرة إثيوبيا السابقين مثل الإمبراطور منليك الثاني، إذ يؤمن هاشالو بأن العاصمة أديس أبابا كانت في يوم من الأيام موطنًا أصيلًا لعشائر “تولاما” التي هي جزء من شعب أورومو، وأن منليك الثاني قام بطردهم منها، واتهمه كذلك بسرقة خيول الأورومو وقد أدت هذه التصريحات إلى غضب محبي الإمبراطور منليك من الفنان المغدور.
المشهد الحاليّ في إثيوبيا
لا تتوافر لدى وسائل الإعلام في الوقت الحاليّ حرية الوصول إلى المعلومات عن تطورات الوضع الداخلي في إثيوبيا عدا ما تنشره وسائل الإعلام الرسمية الحكومية، بعد أن قطعت السلطات خدمة الإنترنت منذ 10 أيام.
رئيس الوزراء آبي أحمد قال في وقت سابق، إن قتل المغني الشعبي هاشالو هونديسا وأعمال العنف التي اندلعت بعد الجريمة وأوقعت نحو 100 قتيل، تشكّل “محاولات منسقة” لزعزعة استقرار البلاد، وأوضح، في خطاب أمام اجتماع حضره أعضاء من قادة وأعضاء إنفاذ القانون، أن أحداث الأيام القليلة الماضية كانت مخططة، تهدف إلى “إشعال الحرب الأهلية والعنف الطائفي، وإعاقة رحلة إثيوبيا نحو السلام والديمقراطية والازدهار بشكل عام، ومنع نجاح جدول أعمالنا الوطني”، لكن رئيس الوزراء لم يحدد الجهات التي يتهمها بإثارة الاضطرابات.
مصطفى قادر، مفوض الشرطة في إقليم أوروميا المضطرب، قال في تصريحاتٍ أدلى بها للتليفزيون الرسمي للبلاد: “نظرًا للاضطرابات التي وقعت في الإقليم، لقي تسعة شرطيين وخمسة مسلحين و215 مدنيًا مصرعهم”، كما أعلنت شرطة العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في وقت سابق مقتل 10 أشخاص في العاصمة، وبالتالي يرتفع العدد الكلي لضحايا الصراع حسب الإحصاءات الرسمية إلى 239 شخصًا، لكن بعض النشطاء يشككون في الرقم المعلن ويقولون إن عدد الضحايا الفعلي يزيد على 600 شخص بجانب أعداد أخرى من الجرحى والمصابين.
أخطر ما تواجهه إثيوبيا حاليًّا هو احتمال اندلاع حرب أهلية شاملة لا تُبقي ولا تذر، إلا أن الرهان يبقى على وعي النخب السياسية والقيادات الشعبية
يصعب للمراقبين والمحللين السياسيين التنبؤ بمستقبل إثيوبيا في ظل الصراع الإثني القديم الذي فجّره مقتل الفنان هاشالو هونديسا، فقد تراكمت الأزمات هذه المرة بفعل تأجيل الانتخابات العامة التي كان يفترض أن تُجرى في أغسطس/آب القادم، وتم تأجيلها بسبب جائحة كورونا، لكن حكومة إقليم تيغراي في الشمال لا تزال مصرة على إقامتها في موعدها رغم رفض الحكومة الفيدرالية.
واتهم بيان حديث لجبهة تحرير تيغراي رئيس الوزراء آبي أحمد وحكومته بتدمير البلاد وتفاقم الصراع، بينما اعتقلت السلطات الأمنية الصحفي والسياسي المعارض إسكندر نيغا وقبله اعتقلت الأمين العام لحزب مؤتمر أورومو الفيدرالي بيكيلي جيربا وعضو الحزب جوهر محمد وهو كما ذكرنا من أكثر الشخصيات تأثيرًا على الشباب خاصة في إقليم أوروميا.
رهان على وعي النخب السياسية والشعبية
أخطر ما تواجهه إثيوبيا حاليًّا هو احتمال اندلاع حرب أهلية شاملة لا تُبقي ولا تذر، إلا أن الرهان يبقى على وعي النخب السياسية والقيادات الشعبية، فدخول إثيوبيا دوامة الحرب والاقتتال الداخلي يعني دخول البلاد في نفق مظلم أقله خسارة كل ما أنجزته الحكومات التي تعاقبت مؤخرًا منذ عهد رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي الذي أطلق ثورة المشروعات الكبرى كالمدن الصناعية والطرق القارية التي تربط إثيوبيا بجيرانها إلى جانب مشروع سد النهضة، واستمرّ خَلَفه هايلا مريام ديسالين في ذات المنوال، حيث تم في عهده افتتاح مترو أديس أبابا والعديد من المدن الصناعية، أما آبي أحمد فيُحسب له توسيع الحريات العامة في بداية شهور حكمه، وكذلك إجراء إصلاحات جوهرية مثل فك احتكار الحكومة لقطاعات الاتصالات والطيران والمصارف التجارية إلا أن معارضيه يتهمونه اليوم باستخدام الأدوات القمعية ذاتها التي استخدمها من قبل زيناوي وهايلا مريام.
الحل الوحيد المتوافر أمام الإثيوبيين حكومة ومعارضة في الوقت الحاليّ هو تقديم تنازلات حقيقية يبدأها رئيس الوزراء آبي أحمد بإطلاق سراح المعتقلين، والسماح لوسائل الإعلام بأداء بدورها في نشر الحقائق وتنبيه الحكومة لمواطن الخلل، كذلك على المعارضة أن تتحلى بروح المسؤولية وتشجع النشطاء على بث روح الوحدة والسلام، والتخلي عن خطاب الكراهية والتعصب العرقي.
ضرورة حل الأزمة من جذورها هذه المرة
بعد تنفيذ هذه الخطوات، يتعين على الحكومة الإثيوبية مواجهة الأزمة بشجاعة هذه المرة، فبدلًا من التعود على أخبار القتل وأحداث العنف بين الحين والآخر، يجب الشروع في حل نهائي للصراع من جذوره عن طريق إجراء لقاءات مكاشفة بين الأحزاب السياسية إضافة إلى ممثلي القوميات المختلفة، ليتم الإعداد إلى مؤتمر مصالحة تكون نتائجه ملزمة لجميع الأطراف على غرار المصالحة الوطنية في رواندا التي أنهت حربًا أهلية كانت أشد وأصعب مما يجري في إثيوبيا.
قد يقول قائل إن أزمة رواندا كانت بين مكونين أساسيين هما الهوتو والتوتسي مقارنة بـ80 مجموعة إثنية تعيش في إثيوبيا، لكن المنطق يقول إن الصراع الداخلي الإثيوبي لا يدور بين كل المجموعات العرقية الـ80 إنما بين مجموعات محددة ويمكن السيطرة على العنف والصراع إن كانت هناك إرادة حقيقية.