24/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

العاطفة الدينية واستغلالها في إرهاب المفكرين التنويريين

فهد سلطان – كاتب من اليمن

فهد سلطان/ صحفي يمني 
 


كانت واحدة من نقاط الضعف لدى الإسلاميين على مدى الخمسة العقود الماضية، استغلال عاطفتهم الدينية من قبل السلطات الحاكمة أو جهات استخبارات داخلية وخارجية على حد سواء. لقد كان هذا الاستغلال إما لإزاحة خصم مشترك أو عبارة عن إيجاد ملهاة لصرف أنظار المجتمع عن قضية أساسية يراد تمريرها بسهولة.

حدث ذلك في اليمن لمرات عديدة وكانت معارك زواج الصغيرات والتكفير لبعض الكتاب دليل واضح على صرف النظام أنظار الناس والأحزاب عن صفقات الفساد والعبث التي كشف حقائقها فيما بعد. وعلى المستوى الخارجي – كمثال فقط – كانت حرب السوفييت بأفغانستان في ثمانينات القرن الماضي دليل أخر على تلاعب المخابرات الدولية في صرف أنظار العالم العربي والإسلامي عن قضية فلسطين وخاصة مع تصاعد مد الصحوة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي والخوف من تكرار تجربة حرب 73 بمعية الشعوب العربية، واستغلال العاطفة الدينية نحو الجهاد هناك لتعود بعد تحقيق الهدف إلى خطأ كارثي لا زال العالم الإسلامي يدفعه ثمنه إلى اليوم.

تسفر هذه المعارك الوهمية والمفتعلة غالبًا عن فجائع وأخطاء كارثية على مستوى الدول والكيانات، والأفراد بشكل خاص، وتخلف مظالم ومآسي لا حدود لها.

ورغم ذلك يتكرر هذا الاستغلال بدرجات مختلفة وفي أماكن كثيرة، كان أخرها محاولة الولايات المتحدة الأمريكية من جديد، دفع الرأي العربي والإسلامي نحو الصين “بسبب قضية أقلية مسلمو الإيغور” وهي الأقلية التي يمارس عليها النظام الصيني قمع وإرهاب وانتهاكات لا حصر لها منذ سنوات وسط إدانات غربية خجولة، إلا أن أمريكا وجدت في المسلمين فرصة للانتقام من منافس لها يهدد مصالحها بصورة مباشرة لتكرار ما فعلته بالسوفييت سابقًا غير أنها فشلت حتى الآن.

على مستوى الأفراد هناك تجارب كثيرة، إذا لا تخلو بلد عربي وإسلامي من تجربة مريرة لمفكر أو باحث أو عالم، فتجربة محمود طه (1909- 1985) في السودان حاضرة في الوعي الشعبي حتى الآن رغم مضي قرابة 35 عامًا عليها، إلى تجربة الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943- 2010) الذي مضى عليها قرابة 25 عامًا، وكلا التجربتين مريرة ومؤلمة للغاية وتعزز نفس القضية، كيف يقع الإسلاميون ضحايا لعاطفتهم الجياشة تجاه الدين، فالأول في السودان نشر أفكارًا عدت هرطقة وخروج عن الدين الإسلامي في لحظة مبكرة، وكانت امتداد طبيعي لجيل النهضة الذي انطلق بداية القرن، بالنظر إلى مستواها المعرفي والفكري، والثانية في مصر بعد نشر كتابه “نقد الخطاب الديني” والذي حاول أن يعيد قراءة النصوص بمناهج البحث الأدبية المعاصرة ومن داخل التراث الإسلامي أيضًا. 

حكم على المهندس محمود محمد طه بالإعدام شنقًا، وكان ذلك وهو في الـ 76 من عمره، وبعد هذه المدة الطويلة أصبح الفكر التنويري والأفكار التنويرية التي طرحها المهندس محمود طه في ذلك الوقت المبكر ابتداء من ستينات القرن الماضي هي السائدة اليوم، ويقول بها كثير من المفكرين الإسلاميين أنفسهم. 

الفارق، أنه قالها في لحظة مبكرة، وكان ذلك نتاج بحث عميق ودراية بمشكلات بلده والعالم الإسلامي بشكل عام، لقد كان يراها ويقدم لها العلاج وهي في وقتها المناسب، بينما الأفكار التي تردد اليوم تأتي وقد دفع المسلمون أثمانًا باهضه، فيما قراءة التاريخ لحظة تنفيذ الإعدام أيام حكم النمري وصعود التيار الإسلامي تعكس حجم الصراع السياسي وكيف أن المفكرين يكونوا ضحايا محتملين لها.  

تجربة أبو زيد هي الأخرى شاهدة على حجم الخطيئة التي وقع فيها الإسلاميون في مصر، وكيف استغلت عاطفتهم الدينية دون دراية أو وعي بمن يقف خلف هذه القضية بالذات ويمسك بأطراف اللعبة.

فبعد انقشاع المعركة التي استمرت لسنوات تبين أنها مفتعلة، وأن السلطة ساهمت في هذا الاستغلال واستفادت من الضجة الهائلة التي حدثت إلى جانب شخصيات أكاديمية أخرى كان لها مصلحة مباشرة من هذه المعركة، وخرج الإسلاميون ومعهم أبو زيد – الجاني والضحية – خاسرون من هذه القضية بالذات. 

في مذكرات أبو زيد “صوت من المنفى” يكشف جانب مهم من المأساة، وحجم الظلم الذي لحق به دون أن يكون هناك معرفة كافية حول نقاط الخلاف معه ومع مشروعه التنويري، وجانب كبير من المعركة مفتعل، وكان عبارة عن تحشيد وإبراز حجم التأثير على الشارع المصري، رغم أن أبو زيد سيعود بعد سنوات ليدافع عن الإسلاميين حين وقع عليهم الظلم، بل وسيدافع عن رأس الحربة وأكثر خصومه وهو الدكتور عبدالصبور شاهين حين أصدر كتابه “أبي أدم”. 

والنهاية، خسرت مصر واحد من أبرز المفكرين الكبار في تواطؤها على نفيه بعيدًا عن وطنه ووضع عراقيل وهمية لعودته استمر حتى وفاته، إلى جانب خسارة الإسلاميين أنفسهم ابتداء باستغلالهم وإلصاق تهم محاربة الإبداع والتفكير وتسجيل ذلك عليهم بالصوت والصورة، وانتهاءً بوأد وإرهاب واحد من المجتهدين الذين أصروا على الاجتهاد والتأويل والتطوير والتحديث من داخل الفكر الإسلامي ذاته لا من خارجه.

ربما أن إعادة قراءة تراث وفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد “بعيدًا عن مشكلة تاريخية النص القرآني التي لم يعطيها حظها الكافي من التنظير إلى نهايتها” وبعد عشر سنوات من رحيله، وانتهاء تلك المعركة التي أصبحت من التاريخ سيغير من النظرة والموقف من أفكاره وأراءه المنهجية في تأويل النص القرآني لدى الكثير.

ليس ذلك فحسب، بل سيكتشف الإسلاميون بالتحديد حجم الجرم الذي مارسوه بحقه على المستوى الشخصي وحجم الخطأ في إرهاب وإبعاد مفكر من الحجم الثقيل بحجم الدكتور أبو زيد عليه رحمة الله، كما حصل مع المهندس محمود طه في السودان وهذا أقل شيء يمكن رد الاعتبار لهما كجزء من الاعتراف بالخطأ وتصحيح المسار.

• المقال خاص بموقع بوابة السودان