21/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

زيارتي الى الدوحة.. دلالات ومشاهدات

محمد المكي أحمد, مستشار إعلامي مقيم في لندن ومدير مكتب سابق لصحيفة الحياة اللندنية في قطر

عدت الى لندن بعد زيارة الى الدوحة استمرت  بضعة أيام، وكانت حافلة بأجمل المعاني والدلالات والمشاهد .الزيارة جاءت تلبية لدعوة رفيعة المستوى، أقدرها واحترم من وجهوها، وأعتز بها أبرز دلالاتها أنها الأولى بعدما غادرت الدوحة في ١٨ أغسطس ٢٠١٥، وكان  نظام الديكتاتور الرئيس المعزول عمر البشير وأدواته القمعية داخل السودان وخارجه وراء ملاحقتي ومضايقتي، أي كان النظام البائد وراء المغادرة.

تلك صفحة طويت، المهم الآن أنني سعدت بزيارة قطر، اذ عشت وأسرتي هناك لأكثر من ثلاثين سنة، وهي  أروع وأجمل سنوات العمر، فتشكلت آصرة محبة للبلد وأهله، وفي مقدورأي شخص أن يلمس ذلك بوضوح في حنايا حروفي وكتاباتي وتعليقاتي الصحافية والإذاعية والتلفزيونية قبل وبعد مغادرة الدوحة. قلت في الدوحة إن من دعوني والتقيتهم بادلوني الوفاء بالوفاء والمحبة بالمحبة، وأكدوا انحيازهم للعدالة في (كعبة المضيوم)، لهم التحية والتقدير. كانت المشاهدات مؤثرة  وحيوية منذ الإطلالة الأولى عبر نافذة طائرة الخطوط الجوية القطرية العملاقة “ايرباص” و الدوحة بدت جميلة ونضرة وتعيش أيام عرس متواصلة، وهي تتمسك وتتميز بثنائية الأصالة والمعاصرة.

في شوارعها الحديثة وأنفاقها وجسورها الجديدة الممتدة بامتداد البصر وجدت أنني محتاج  الى (دليل) رغم أنني خبرت شوارعها وأزقتها وقيادة السيارة في ربوعها الباهرة، وبينها سوق واقف التراثي الترفيهي.  في (واقف) وهو أشبه بملتقى دولي ممتلئ بالناس الى درجة  الفيضان، ترى بشرا من كل لون وجنس ودين، هناك وفي البلد كله تلمس مناخ الأمن والطمأنينة والاحترام للناس من كل  الألوان والأديان والثقافات.

في الدوحة تشد الزائر منطقة  كتارا (الحي الثقافي) وتبدو المناظر والمشاهد خلابة و جاذبة عندما تجول السيارة  في منطقتي اللؤلؤة و(لوسيل) المدهشة. كنت هناك بصحبة ورفقة صديقي (التاريخي) الأخ العزيز الاستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية وزير الدولة والأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي قبل سنوات كنت أصف الدوحة في تقاريري الى صحيفة (الحياة)  اللندنية وتعليقات إذاعية وتلفزيونية بأنها تحولت الى ورشة عمل،وحاليا باتت (ورشات) البناء في مجالات عدة هناك تبدو روعة المشهد، ويشمل ذلك التطور الملحوظ والكبير في الخدمات والمؤسسات الصحية التي لا تفرق بين مواطن ومقيم،والتعليم بمناراته  المحلية وجامعاته الدولية إلى جانب جامعة قطر وفيما يبدو أن الدوحة دخلت الآن المرحلة النهائية لاستعداداتها الكبيرة لاستضافة كأس العالم ٢٠٢٢، فإن التطور السياسي الذي أعلنه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، عشية وصولي الى الدوحة، يكمن في ترتيبات  لإجراء انتخابات مجلس الشورى في فترة مقبلة، قال في ١٣ نوفمبر ٢٠١٩(قبل أيام) ، وهو يستقبل ويخاطب رئيس وأعضاء المجلس(نتطلع لمجلس شورى منتخب في القريب العاجل هذا تطور كبير ، وهو الأول من نوعه إذا أن مجلس الشورى الحالي يجري تشكيله بالتعيين منذ سنوات أعتقد بأن الانتخابات البرلمانية ستنقل قطر الى مرحلة جديدة لتعزيز وترسيخ  دولة المؤسسات التي وضع حجر أساسها الأمير الوالد (السابق)الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.

وكان  الشعب القطري شارك في استفتاء عام في ٢٩ أبريل ٢٠٠٣( غطيت  تفاعلاته لصحيفة الحياة اللندنية ) ووافق على دستور من أبرز بنوده الفصل  بين السلطات التنفيذية والقضائية التشريعية، وينص على حرية الصحافة وحق المرأة القطرية في الانتخاب وكانت حواء القطرية شاركت للمرة الأولى في الانتخابات البلدية في  ٨ مارس ١٩٩٩ وكنت شاهدا لتفاعلاتها، وأهم مظاهرها أن ست سيدات خضن الانتخابات في أول حدث من نوعه وسط رفض من (بعض الرجال) لكن الإرادة السياسية القيادية انتصرت للمرأة وحق المشاركة، وقد لعبت الشيخة موزا المسند أدوارًا تاريخية بدعم مشاركة المرأة في كل مجالات الحياة ، ويعود لها الفضل في تشكيل باقة جامعات دولية فتحت أبوابها في الدوحة لأبناء القطريين والمقيمين والخليجيين والعرب وكل الناس يلحظ الزائر للدوحة هذه الأيام أن (المقيم) بات يشكل حضورا في خطابات يلقيها  الأمير الشاب، المدرك، والمواكب لروح العصر، وهذا ما تؤكده مواقفه المعلنة التي تحترم من أفنوا شبابهم في خدمة قطر، إذ قال للقطريين لدى افتتاحه دور الانعقاد الثامن والأربعين لمجلس الشورى ( من لا يعطي لا يقدر قيمة ما يتلقى، المواطنة تشمل حقوقًا وليس استحقاقات، وهي ليست عبارة عن حقوق فقط بل هي أيضا مسؤوليات وواجبات، وأولها العمل بإخلاص وإتقان كلٌ في موقعه، فكل موقع مهم ، والحقوق أيها الإخوة والأخوات ليست امتيازات أو شعوراً بالتفوق ناجماً عن الهوية، أو بالتعالي غير المبرر على الآخرين، فالتواضع دليل الثقة بالنفس، واحترام الآخرين من احترام الذات، ومسؤوليات المواطنة تتطلب أيضا تقدير من كدّ في بناء هذا الوطن، بما في ذلك إخواننا المقيمون هذه اللغة جديدة في المنطقة، وهذا  الموقف غير مسبوقة خليجيًا، اذ ينظر بعض الناس في دول خليجية الى الأجانب العاملين في هذه الدولة أو تلك باعتبار أنهم مجرد أجراء، يخضعون لشروط الكفالة المجحفة لكن الدوحة التي طورت خلال السنوات الماضية بعض تشريعاتها بشأن العاملين الأجانب تغرس الآن في أذهان مواطنيها أن المقيمين شركاء وبشر يستحقون الاحترام .

هذا موقف إيجابي وأخلاقي ومحترم وينسجم مع حقوق الإنسان وقيمها العالمية ، ويعبر عن نضج سياسي ووعي عميق بمقتضيات بناء الأوطان، وفي صدارتها احترام كرامة الإنسان وحقوقه. يلاحظ أيضا, أن الأمير يولي اهتمامًا بالشأن السوداني ، قال في خطابه في مجلس الشورى (البرلمان) قبل أيام (بالنسبة للسودان الشقيق فإننا نثمن الخطوات الإيجابية التي تحققت في العملية السياسية وآخرها تشكيل الحكومة السودانية ونجدد دعمنا لها لتلبية طموحات الشعب السوداني كافة. هذا موقف إيجابي ، ودور الدوحة  مهم وحيوي ومطلوب في دعم السودان الجديد،وأدعو حكومته الانتقالية مجددا الى التشديد على بناء علاقات متوازنة مع كل دول الخليج، ودول العالم، من دون السقوط في وحل المحاور. 

الدوحة ودول  الخليج قادرة على دعم خطط ومشاريع  اعادة بناء السودان واحترام استقلالية قراره، ونظامه الديمقراطي التعددي خلال وجودي هناك لاحظت أن مؤتمرات الدوحة لا يتوقف حراكها و إيقاعاتها،في مجالات عدة،  وبينها الاقتصاد والسياسة والرياضة تزامنت زيارتي مع مؤتمرات دولية خاطبها رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الشيخ عبد الله بن ناصر آل ثاني ،وهو رجل رصين، يعمل كثيرا ويتكلم قليلا.

الحدث الخليجي الأبرز خلال فترة الزيارة  تمثل في أن السعودية والإمارات والبحرين أعادت النظر بمقاطعة بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم في الدوحة وقررت المشاركة في (خليجي ٢٤) في ٢٤ نوفمبر الحالي! هذه خطوة إيجابية وحيوية ومهمة وتستحق الإشادة, لأن حصار قطر لم يكن حصارا للدوحة وشعبها فقط بل كان -كما أرى- حصارا لشعوب المنطقة كلها ،إذ جرى تمزيق شمل عائلات متداخلة وأوغرت الصدور، وشمل ذلك قلوب وعقول أطفال وعائلات حرمت من التواصل مع أهلها، هذه مأساة غير مسبوقة ،أضرت بالجميع، ووجهت ضربة قاصمة لمجلس التعاون الذي يحتاج الى اصلاح شامل. في هذا السياق فان من يجول في شوارع الدوحة، ويتأمل بعين المراقب سير الحياة ، سيلمس الحقيقة البارزة وهي أن الدوحة صمدت  صمودا تاريخيا، وأنتجت سلعا كانت تستوردها، وواصلت مسيرة الإنجاز في مجالات عدة، رغم محاصرتها أرضًا وبحرًا وجوًا ، وهنا تجلت إرادة القيادة وتجلى تفاعل شعبها وتلاحمه معها بصور باهرة بهيجة. المأمول والمنتظر أن تشكل مشاركة فرق رياضية خليجية في بطولة الدوحة بداية تفكيك للحصار الذي ظلم القطريين وظلم شعوب المنطقة كلها والمقيمين ،أي التمهيد عبر الرياضة لعودة السياسيين ليفكوا الحصار الذي فرضوه على أنفسهم وشعوبهم.

زرت كل دول الخليج خلال فترة عملي في الدوحة وأعرف أهمية وحدة وتماسك البيت الخليجي، هذه ضرورة مجتمعية قبل أن تكون سياسية واقتصادية، وهذا يحتاج الى قرارات شجاعة وجريئة تفتح التواصل بين الناس، وتنهي الحصار،  أو (المقاطعة) كما توصف في ثلاث دول خليجية ، احتراما لحقائق التاريخ والجغرافيا والبشر. أي احتراما للإنسان ،المواطن، والمقيم، في دول الخليج الست. خلال زيارتي للدوحة أكرمني أصدقاء قطريون عبر مآدب في بيوتهم العامرة بأهلها ، ذلك الترحيب عكس الود المتبادل ، في هذا الإطار الاجتماعي سعدت بلقاء الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني ، والأساتذة عبد الله بن حمد العطيةًً وحمد العطية وعبد العزيز العطية، وعبد الرحمن العطية ، كلهم قامات ورموز في مجتمعهم، فتحوا لي قلوبهم قبل بيوتهم, في أحد الأندية كان العناق والاحتضان الحار مع إخواني في رابطة أبناء (بارا) ،تلك المدينة السودانية الخضراء (مسقط رأسي) ، التي تشتهر ب(السواقي) أي المزارع، ثم جاء  لقاء (الأحباب) في أحد الفنادق ، حارًا ودافئًا كدفء دواخلهم. شكرا من الأعماق مجددًا لمن دعاني لزيارة الدوحة و استقبلني ورافقني في رحلة العودة الى مناخ الدفء. .

ختاما: أحرص من وقت لآخر على تأمل أبعاد ومضامين قصيدة الشاعر والكاتب  اليمني المبدع الدكتور عبد العزيز المقالح (لا بد من صنعاء وان طال السفر) ،أدمنت قراءة هذه القصيدة بعدما غادرت صنعاء الحبيبة متوجهًا الى الدوحة في العام ١٩٨٤، وكنت عملت صحافيا  في صنعاء، ولليمن وأهلها مكانة راسخة في القلب والعقل والوجدان, الآن أقول (لا بد من الدوحة وان طال السفر) إن كان في العمر بقية.