كيف تُؤَجِّج حرب اليمن حِدّة الصراع في دارفور
بقلم بيل ترو – صحيفة الإندبندنت ترجمة عثمان حمدان
الجنود السودانيون الذين شاركوا في حرب اليمن يتحدثون عن الرواتب والثروات الطائلة التي تُحَفَّز آلاف الدارفوريين وتدفع بهم للتَجَنُّد في قوات الدعم السريع، مما يفاقم من حدة التوترات في دارفور.
ليدور الحديث بكثرة في دارفور، المنطقة الواقعة في غرب السودان والتي مزقتها النزاعات القبلية، عن المكسب المادي الذي يمكن تحقيقه في فترة وجيزة لا تتجاوز الستة أشهر بالانضمام لقوات الدعم السريع والمشاركة في حرب اليمن. يقولون أنه يفوق ما يمكنك كسبه من مال طيلة العمر. وهكذا أصبحت حرب اليمن، التي تدور رحاها علي بُعد 2000 كيلومتر من دارفور، “أكبر مُخَدِم محلي” في المنطقة. لا يوجد مَنْ لا يعرف مُجندًا ممن سجلوا أسماءهم للمشاركة في الحرب. على مدار خمس سنوات استأجرت دول الخليج أفرادًا من قوات الجيش السوداني ومن قوات الدعم السريع (وهي مليشيا شبه عسكرية paramilitary مسلحة) للقتال إلى جانب قوات الحكومة اليمنية ضد المتمردين الحوثيين الذين تدعمهم إيران.
وعلى الرغم من مخاطر الحرب، دفع أغراء الأجور الطائلة عشرات الآلاف من الرجال والصبية وجعلهم يتكالبون على مراكز تجنيد قوات الدعم السريع. خلال ستة أشهر يحصل الجنود المشاة من قوات الدعم السريع، الذين ينحدرون في الغالب من أكثر شرائح المجتمع فقراً، علي مليار جنيه سوداني (حوالي 17000 جنيه إسترليني بالسعر الرسمي)، أما الضباط فيحصلون علي ضعف ذلك المبلغ. وللمقارنة لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور في جميع أنحاء السودان 190 دولارا في الشهر، ويقل عن ذلك بكثير بالنسبة للمزارعين والرعاة.
وحسب إفادات لمواطنين من المنطقة فاقمت عودة المقاتلين الأثرياء المُسَلحِين والمُدربين من اليمن خلال الخمس سنوات الإخيرة من حدة التوتر في دارفور، المنطقة التي مزقتها حرب أهلية اندلعت قبل ستة عشرة عامًا. ويخشى الكثيرون أيضا من التزايد غير الطبيعي في أعداد المجندين في صفوف قوات الدعم السريع المتهمة من قِبل جماعات حقوق الإنسان بارتكاب أعمال عنف وإبادة جماعية هناك.
حدثني أحد قادة قوات الدعم السريع، ممن عادوا من القتال في جنوب غرب اليمن في بداية العام، طالبا عدم الكشف عن هويته خوفًا من رد الفعل العنيف: “كانت الحرب في اليمن الوسيلة الرئيسية للشباب للإنعتاق من ربقة الفقر، وشَكَلّت بالفعل أكبر مخدم في دارفور. دون ذلك سيكون من المستحيل، أن تكسب مليار جنيه سوداني، لن يحدث ذلك حتي في الأحلام. الدافع للإشتراك والقتال في الحرب يتعلق بالعائد المادي، لا أكثر من ذلك. بدون ذلك العائد لن يكون السودانيون على استعداد للذهاب والقتال في بلد مغاير تماماً من أجل قضية لا يعرفون عنها شيئا.” هكذا حدثني القائد العسكري في قوات الدعم السريع، بينما كان يصارع حمي الملاريا، التي لم تبرحه منذ عودته إلي منزله في الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور. وعلى مدار الشهرين الماضيين أدَّى تفشي مرض الملاريا وحمى الضنك في شمال دارفور، على نحوٍ غير مسبوق، إلى إثارة شائعات مفادها أن الأعداد الهائلة من الجنود العائدين من اليمن هم من جلبوا هذه الأمراض معهم. وحسب رأي هذا القائد، صار المواطنون متحمسين للغاية للتكسب من الحرب، وفي كل مرة فُتح فيها باب التجنيد، تلقت مراكز التسجيل كمًا من الطلبات يفوق عدد الأماكن المتاحة بعشرة أضعاف. وبمجرد الفراغ من التسجيل، يتم الشروع في التدريب الذي يستغرق أحيانا أقل من ثلاثة أشهر قبل نشر المجندين في قوات المقدمة في اليمن.
يسترسل محدثي وهو يرتعش من وطأة الحمى: “لقد أصبحت العائلات تخشي من ذهاب أبنائها إلى المدارس حيث يساور أهَاليهم القلق من إحتمال هروبهم للتجنيد تحت إغراء تأمين مستقبلهم المادي. بالمقابل، تُبدي بعض العائلات رغبة مؤكدة في تجنيد أبنائها. يكفي أن ترسل ولدين للحرب ويتم تأمين الوضع المادي للعائلة بأكملها إلى الأبد. “بلغت مشاركة القوات السودانية في الحرب ذروتها بين عامي 2016 و 2017، وكان يُعتقد حينها أن أكثر من أربعين ألف جندي سوداني يقاتلون بشكل ما في اليمن، إما في العمق الداخلي أو على طول الحدود مع المملكة العربية السعودية.
تتميز معدلات التجنيد بالزيادة والاضطراد، وهكذا فقد مر عشرات الآلاف من المُجَنَدِين عبر هذه البوابة. وعلى الرغم من الإنكار والنفي المتكرر من قبل قيادة قوات الدعم السريع، يُعتقد أن هناك أطفالاً قُصَّرٌ من بين المُجَنَدِين. وتقل رواتب الجنود الأطفال عن رواتب البالغين، رغم ذلك يحصلون علي ما يقارب 8000 جنيه استرليني لكل دورة خدمة عسكرية في اليمن. وهكذا يُعتبر العائد المالي من الخدمة في حرب اليمن أمر مجز للغاية، ويشاع أن بعض العائلات تقوم بدفع جميع أبنائها للتجنيد، حتى لو كان عمر بعضهم لا يتجاوز الأربعة عشر عاماً.
تتركز مشاركة قوات الدعم السريع في الخطوط الأمامية في المدن اليمنية الساحلية مثل المخا. ووفقًا لجنود سابقين، غالباً ما يتم نشر قوات الدعم السريع لتأمين البلدات والمدن التي تستولي عليها القوات اليمنية. كما تعمل هذه القوات أيضاً كحراس شخصيين bodyguards لقلة من جنود المشاة الإماراتيين. وتحدث الجنود عن الأخطار التي تشمل التعرض لنيران قصف كثيفة، ومواجهة الكمائن، وعبور الأراضي المزروعة بالألغام الأرضية. وحتي الآن لا أحد يعرف علي وجه الدقة عدد الجنود السودانيين الذين أصيبوا أو قُتلوا في اليمن. وفي إعتراف نادر عام 2017، أعلن القائد الأعلي لقوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”، أن 412 جنديًا من قوات الدعم السريع قد لقوا حتفهم في اليمن. ويري محدثي القائد العسكري في الدعم السريع العائد من اليمن للفاشر “أن قيام القوات السودانية بارسال 15000 شخص للمخاطرة بحياتهم والتدخل في حرب قاتلة لا علاقة لنا بها، أمر يثير القلق والإهتمام.” ويواصل متسائلاً “لماذا نقوم بالتدخل في بلدان أخرى في حين يُعجزنا حل مشكلاتنا الخاصة هنا؟”
وكان الديكتاتور السوداني المُزْمِن، عمر البشير، الذي اُطِيحَ به في ثورة وانقلاب عسكري، هو أول من أبرم اتفاقًا لمشاركة القوات السودانية في خوض حرب الخليج ضد اليمن. بمقتضي ذلك الإتفاق يتم نشر قوات الدعم السريع داخل العمق اليمني، بينما يتم إرسال قوات جيش السودان النظامي، الذي يحصل جنوده على رواتب أقل، إلى الحدود مع المملكة العربية السعودية. وحسب بعض الخبراء، يتم تحويل دفعيات أجور قوات الدعم السريع مباشرة لحميدتي، الذي يُزعم أنه حقق ثروة طائلة من الحرب.
منذ عام 2015، قام حميدتي بتجنيد معظم قواته من دارفور، حيث تم تأسيس قوات الدعم السريع لأول مرة لمحاربة المتمردين الدارفوريين الذين حملوا السلاح ضد الدولة. وهو متهم بتنفيذ حملة البشير للتطهير العرقي ضد السكان الأفارقة في المنطقة. وبمجرد أن صار صديقا موثوقًا به للبشير، أصبح حميدتي جزءا من جهاز الأمن الذي أطاح بالبشير، وهو حاليًا نائب رئيس مجلس السيادة، الهيئة العسكرية-المدنية المشتركة الحاكمة في السودان.
بعد الثورة، تحرص السلطات الانتقالية المدنية والعسكرية الجديدة على إعادة القوات إلى الوطن. فقد صرح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لـ “الإندبندنت” إنه لا يوجد حل عسكري للنزاع في اليمن، بل حل سياسي فقط. كما أكد حميدتي نفسه الانسحاب في مقابلة مع هذه الصحيفة. لكن سكان دارفور يقولون إن الضرر قد وقع وحاق بهم بالفعل. ويعبر المواطنون عن خشيتهم من أن يؤدي الإسترزاق بالدارفوريين في الحروب إلى عسكرة السكان الذين مزقتهم الحرب، وإلى تعزيز وتقوية قوات الدعم السريع، المتهمة من جماعات حقوق الإنسان، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، بمواصلة ارتكاب جرائم حرب، كما تزعم هذه المنظمات. وكانت هذه المخاوف علي أشدها في معسكرات النزوح في دارفور، التي تضم مئات الآلاف من الأشخاص ممن أُضِطروا إلى الفرار من قراهم على أيدي الجماعات المسلحة بما في ذلك قوات الدعم السريع.
منذ إِحراق قريته كالا عام 2009 وتسويتها بالأرض على أيدي ميليشيا الجنجويد، سَلَف وباكورة قوات الدعم السريع، يقيم اسماعيل خريف، 23 عامًا ، في مخيم أبو شوك للنازحين بالقرب من الفاشر. يعتقد اسماعيل إن الحرب في اليمن شجعت الميليشيات أكثر. ووفقًا لرأيه “جندت قوات الدعم السريع الكثير من المواطنين للانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، الأمر الذي يُعزز قوة ونفوذ الدعم السريع بالمال والأسلحة – مما يؤدي إلى عدم التكافؤ. لقد عادوا بعد أن تم تجهيزهم وتدريبهم وتمويلهم على نحوٍ أفضل، وعلى استعداد للمشاركة في المذابح وقتل أبناء شعبنا. إنه أمر مقلق للغاية “.
وبالرغم من ذلك، لم تمنع هذه المخاوف السكان المحليين الفقراء من التكالب على الالتحاق بقوات الدعم السريع، ويشمل ذلك خصومها المناوئين لها بشكل طبيعي. فعلي سبيل المثال قال رقيب معاش من متقاعدي الجيش السوداني لـ “الاندبندنت” إنه يتطلع بشدة للقتال في اليمن حتى يتمكن من انتشال أسرته المكونة من 14 شخصاً من براثن الفقر المدقع. هذا علي الرغم من بغضه وكراهيته لقوات الدعم السريع بسبب الجرائم التي ارتكبتها، حسب زعمه، ضد مواطنين ينتمون لمنطقته. في واقع الأمر لا يزال هذا النقيب يعاني الأمرين في سبيل توفير ضرورات الحياة بالاعتماد على معاش من الجيش النظامي يبلغ في جملته 85000 جنيه سوداني، أو ما يقرب من 1400 جنيه استرليني. “الوضع المعيشي هنا قاسٍ ومروع، والسبيل الوحيد للإنعتاق منه هو الانضمام إلى قوات الدعم السريع والذهاب إلى اليمن. في عام واحد يمكنك الحصول على 3 مليار جنيه سوداني، ستتمكن من شراء سيارة ومنزل، والتقاعد. ذلك أكثر مما يمكنك الحصول طوال حياتك، ولا يمكنك أبدا أن تحلم بجني هذا القدر من المال.” ويلاحظ محدثي أنه أصبح من العسير الحصول علي فرص للتجنيد والمشاركة في الحرب خاصة بعد أن شرعت قوات الدعم السريع في تقليص وجودها في اليمن. “لقد حاولت مرتين الانضمام لقوات الدعم السريع وقدمت لهم أوراقي وخبراتي، لكنهم قالوا إنه ليس لديهم فرص جديدة”.
أصبح الناس يسْتَمِيتْون في الذهاب إلى اليمن قبل انسحاب السودان من الحرب، وهناك تقاريرعن “تجار قوات الدعم السريع” من الوسطاء الذين يتقاضون 100000 جنيه سوداني (1400 جنيه إسترليني)، كرشوة للمساعدة في تسهيل قبول طلبات الإنضمام للدعم السريع. وحتى مع توفر الوساطة، يري الرقيب المتقاعد إنه ليس لديه فرصة تُذكر للالتحاق بقوات الدعم السريع التي تُجند منسوبيها في الغالب من رجال القبائل العربية، حاضنة وقاعدة الدعم الطبيعية لهذه القوات. ويكرر محدثي ما قاله لي اسماعيل في معسكر النازحين “هذه الممارسة تغذي بالتأكيد الانقسامات هنا”، “إنهم يريدون تقوية القبائل العربية، لذا فهم يجندون من بين قبائلهم فقط.”
محمد الذي يعمل كصحفي محلي، والذي سبق أن اعتقلته قوات الدعم السريع للتحقيق في نشاطه الصحفي، قال لي إن حرب اليمن ولدت أيضاً فسادًا واسعًا داخل دارفور وفي الجهاز الأمني. وتحدث عن “الجنود الأشباح”، حيث تقوم العائلات المسيطرة برشوة المسؤولين لتسجيل أسماء أبنائهم، على الرغم من أنهم لا يخدمون مطلقًا في الحرب. “أحد الأصدقاء، الذي كان يعمل سائقًا لدى قوات الدعم السريع، تباهي بقيامه بإدراج أسمه في القائمة للذهاب إلى اليمن ثلاث مرات، لكنه لم يغادر دارفور أبدًا.” وقال محمد لصحيفة الاندبندنت إنه لا يزال يتقاضى راتبه كما لو أنه شارك في القتال. وأضاف: “الأشخاص ذوو الصلات القوية سجلوا أسماءهم ولكنهم لم يذهبوا، فقط أسماءهم تنتقل إلى اليمن”. أما أحمد وهو صحفي محلي آخر، شارك أخوه في القتال في اليمن مع الجيش السوداني هذا العام، فيذكر إن الحرب في اليمن أثارت اشتباكات حتي داخل قوات الدعم السريع.
وتروج بعض الأخبار عن تعرض الجنود العائدون من اليمن للسرقة على أيدي زملائهم بعد فترة وجيزة من حصولهم على أموال ضخمة من البنك. وقال إن حرب اليمن ساعدت أيضاً في تحويل قوات الدعم السريع إلى أكبر قوة في البلاد. “لقد سُمح لهم بالتوسع في أعمال وصناعات لا علاقة لهم بها، بما في ذلك أعمال البناء والذهب.” ويقول الخبراء إن الذهب صار مصدر تمويل رئيسي للملياردير حميدتي. كما يُزعم أن الأرباح تحققت بتحويل العملة الصعبة من دولارات الخليج إلى الجنيه السوداني باستخدام أسعار صرف أفضل في السوق السوداء، ثم دفع الرواتب بالعملة المحلية وتحصيل الفرق. حميدتي نفسه أعترف في خطاب متلفز بعد أيام قليلة من الإطاحة بالبشير، بأنه كان قادراً على إنقاذ البلاد بإمداد الخزينة بمبلغ مليار دولار، وعَزَا ذلك جزئياً إلى أرباح قوات الدعم السريع من حرب اليمن. وفي مقابلة مع الاندبندنت نفى حميدتي بشدة الاتهامات بجني الأرباح وقلل من هذا الأمر قائلاً “لم يكن اتفاقاً شخصياً”. لكن سلمان بلدو من مشروع “كفاية”، الذي حقق على نطاق واسع في نشاط قوات الدعم السريع، لا يتفق مع ذلك. “أغلب التمويل يتم تسليمه لحميدتي شخصياً من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. إنه لا يمر عبر بنك السودان المركزي، حسب إعتراف حميدتي نفسه. قال سلمان بلدو “إنها قوة عسكرية خاصة”. ويضيف بلدو “إنه لأمر خطير للغاية، أن تتم تنصيب أمير حرب، حائز على ثروة خاصة ضخمة من حرب اليمن، في منصب نائب رئيس الدولة.”
ووافقت جيهان هنري من هيومن رايتس ووتش على ذلك، قائلة إنه من المقلق أن يظل هذا القائد المليشي الثري نائباً لرئيس المجلس السيادي بينما تمر البلاد بمرحلة انتقالية صعبة. “إن بقاء حميدتي في منصبه يعطي الانطباع بأنه فوق القانون. وقالت إن القوات التي يقودها مسموح لها أن تفعل ما تشاء دون أي عواقب حقيقية. “لا تقوم هذه القوات بما يكفي لرتق الجراح التي لحقت بالمجتمع في دارفور.”