عبد المنعم مكي يكتب: الثورة لم تمت، والسودان عائد إلى المسرح العالمي برسالة أمل
أتاحت لى عطلة نهاية الأسبوع فرصة النقاش والحوار مع بعض الأصدقاء، حول الشأن العام، الفترة الانتقالية وتحدياتها، والحكومة وانقسام الناس حول أدائها ما بين راض وناقم. لقد حفزني ذلكم النقاش وأثار لدي العديد من الملاحظات وددت تسجيلها في هذا المقال، ظنا مني أنها ربما تكون خافية لدى البعض.
أشير هنا إلى أنني لست بصدد مدح الحكومة أو انتقادها. أنا هنا بصدد إيراد بعض الحقائق والأرقام، التي ربما تكون مفيدة في لفت الانتباه إلى ما تحقق من إنجازات خلال الفترة الوجيزة منذ تشكيل الحكومة، برئاسة رئيس الوزراء، الدكتور عبد الله حمدوك.
أتاح لي عملي في قسم الإعلام في الأمم المتحدة، في نيويورك، الاطلاع على الكثير من التفاصيل والقرارات والإجراءات ذات الصلة بما يجري في بلدي الحبيب، السودان. لقد سررت جدا بهذا الزخم المتنامي في دهاليز المنظمة الدولية. وسأحاول في هذا المقال سرد بعض هذه التحركات الإيجابية والتي، بالتأكيد، سيكون لها ما بعدها.
في سبتمبر من العام الماضي، جاء الدكتور عبد الله حمدوك إلى نيويورك، لحضور مداولات الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك. وباعتباره ممثلا لحكومة تمخضت عن ثورة ملهمة شهد العالم بفرادتها وسلميتها، استطاع حمدوك خطف الأنظار، وكان نجما فوق العادة، في الحدث العالمي السنوي، الذي يحضره رؤساء وقادة الدول والكيانات والمنظمات الكبرى. يأتون إلى هذا الحدث الكبير “لجرد الحساب” واستعراض قصص نجاح شعوبهم، أو من يمثلونهم، وخططهم المستقبلية، فضلا عن خلق علاقات تمكنهم من الحصول على الدعم المادي أو السياسي أو المعنوي، أوالترويج لبرامج ومشروعات تنموية وغيرها.
جاء حمدوك إلى الأمم المتحدة “برسالة أمل،” مثلما قال في حوار أجريناه معه على هامش مشاركته في هذه الاجتماعات. هذه الرسالة مفادها أن السودان “عائد إلى المسرح العالمي” أكثر انفتاحا واستعدادا لبناء علاقات صحية ومتينة، تمكنه من تجاوز عزلة استمرت عقودا، خسر خلالها السودان كثيرا وتضررت مصالحه وسمعته، وفاتته فرص جمة في كافة مناح الحياة. جاء حمدوك، الموظف الأممي السابق، إلى مقر الأمم المتحدة، حاملا معه آمال شعب متلهف إلى التغيير، وطامح في حدوث ذلك بأسرع ما يكون.
لقد كان حمدوك بارعا في استغلال علاقاته في الترويج لبلاده، فعقد اجتماعات مكثفة مع العديد من الرؤساء ومديري الوكالات الأممية الكبرى والشخصيات المهمة. من بين هذه الفعاليات، اجتماع رفيع المستوى لدعم السودان، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، رئيس الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد، رئيسة إثيوبيا سهلي ورق زودي، نائب رئيس جنوب السودان تعبان دينق، والعديد من ممثلي الدول الأخرى. الأمين العام تحدث في ذلكم الاجتماع واصفا إياه بأنه “أسعد لحظة في حياته المهنية.”
لقد كان الأمين العام سعيدا حقا برؤية السودان، وهو يسعى جاهدا لتجاوز عثرته والنهوض من جديد، في محاولة للحاق ما فاته، طيلة ثلاثين عاما من البؤس. لقد شكل الاجتماع لحظة فارقة أجمع فيها رؤساء الدول على شيئين مهمين هما: ضرورة دعم السودان لتجاوز محنته، والعمل على رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
بعد ذلكم الاجتماع، ألقى السيد عبد الله حمدوك كلمته إلى العالم من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي أكد فيها على قيم ثورة ديسمبر في السعي نحو الحرية والسلام والعدالة. وجاء جمع غفير من السودانيين إلى مقر الأمم المتحدة، لحضور الكلمة المشهودة.
على هامش مداولات الجمعية العامة، وقع السودان أيضا مذكرة تفاهم مع مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يقضي بإنشاء مكتب للمنظمة في السودان، وهي خطوة وصفت بالمهمة، لأنها أكدت نية السودان التقيد والالتزام بمسألة حقوق الإنسان، بعد أن كان سجله في هذا المجال من بين الأسوأ في العالم.
حضور عبد الله حمدوك إلى الأمم المتحدة مهد لخطوات مهمة حدثت ولا تزال تحدث إلى الآن. سأحاول استعراض بعضها. أولا: في أكتوبر 2019، فاز السودان بمقعد في مجلس حقوق الإنسان في جنيف. خطوة كانت مهمة جدا، ومثلت دافعا كبيرا لجهود الاندماج والعودة إلى منظومة الأمم.
وفي الشهر نفسه، أكتوبر 2019، زارت أمينة محمد، نائبة الأمين العام الخرطوم ودارفور، وأعربت عن استعداد الأمم المتحدة وشركائها لمساعدة السودان، في مسعاه نحو بناء واستعادة قيم التعايش الإنساني والتماسك الاجتماعي، من أجل تحقيق السلام والتنمية. وافتتحت نائبة الأمين العام مركزا معرفيا لحقوق الإنسان في جامعة الفاشر بولاية شمال دارفور، تم تأسيسه بواسطة بعثة يوناميد وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان.
تزامنت زيارة نائبة الأمين العام، مع زيارة للمديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور. زيارة هي الأولى من نوعها إلى السودان، تعهدت خلالها بدعم أطفال السودان في الحصول على الحقوق الأساسية من صحة وتعليم.
بعد ذلك مباشرة، تمكن برنامج الأغذية العالمي، ولأول مرة، منذ 10 سنوات، من دخول مناطق سيطرة الحركات المسلحة في النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيت تم توزيع المساعدات الإنسانية إلى 10 آلاف شخص في بلدة يابوس في النيل الأزرق. عملية توزيع المساعدات تلك تمت في وجود أحد أرفع المسؤولين الأمميين، وهو ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي والحاكم السابق لولاية كارولاينا الجنوبية، في الولايات المتحدة الاميريكية. بعد ذلك بفترة وجيزة، زار حمدوك نفسه منطقة كاودا، برفقة ديفيد بيزلي والمبعوث الأميركي إلى السودان دونالد بووث.
الكثيرون لا يعرفون أن كل هذه الزيارات رتب لها حمدوك نفسه، خلال وجوده في نيويورك، ولم تكن لتتم لولا علاقاته الواسعة. بعد زيارة كاودا، زار السيد مارك لوكوك وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مدينة كسلا في شرقي السودان، التي يعيش فيها أكثر من 400 ألف شخص في مستويات أزمة انعدام الامن الغذائي، ولا يحصل سوى 13% من المجتمعات الريفية على المياه الصالحة للشرب.
هذه الزيارة، أي زيارة السيد لوكوك، كانت مهمة جدا. لماذا؟ لأنها مهدت لمؤتمر عقدته الأمم المتحدة، في لندن في يناير الماضي، بالشراكة كل من المملكة المتحدة والسويد. وقد حضره السيد مارك لوكوك. المؤتمر كان هدفه دعم العمل الإنساني في السودان، حيث إن نحو 9.3 مليون شخص، في السودان، سيحتاجون إلى المساعدات الإنسانية في 2020، مقارنه بحوالي 8.5 مليونا احتاجوا إلى المساعدات الإنسانية في 2019. في مؤتمر لندن، تعهد 19 مانحا دوليا بتوفير التمويل، بما في ذلك عبر دعم مرن يمتد لسنوات.
حديثا، وخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، التقى السيد عبد الله حمدوك بالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خلال مشاركتهما في قمة الاتحاد الأفريقي، في أديس أبابا. وكان هذا الاجتماع تأكيدا لمتابعة الأمين العام لجهود دعم السودان. ناقش الزعيمان، حمدوك وغوتيريش، قضايا الانتقال السياسي وعملية السلام الجارية في البلاد، والانتقال من حفظ السلام إلى بناء السلام في دارفور. وقد أشاد الأمين العام بجهود الإصلاح الجارية التي يقوم بها رئيس الوزراء السوداني وتعهد بدعم الأمم المتحدة الكامل للسودان، وجدد دعوته لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، قائلا إن “السودان هو رمز للأمل في القارة الأفريقية.”
بكل تأكيد هذا غيض من فيض ما حدث للسودان بعد الثورة. فلماذا يحاول الناس التقليل منها واستعجال نتائجها؟ بكل تأكيد، الازدهار لا يحدث بين يوم وليلة. والتغيير يأخذ وقتا طويلا. وما أفسدته الإنقاذ خلال ثلاثين عاما لا يمكن إصلاحه في ثلاثة أشهر أو ثلاث سنوات. الإصلاح يتطلب تكاتفا وحسن نية. الإصلاح يتطلب العمل. الإصلاح يتطلب الوقوف وراء الحكومة ودعمها والوثوق فيها.
خلاصة القول تكمن في أن هناك الكثير من الجهود الجارية لدعم السودان، إنسانيا، سياسيا، وماديا. هذه الجهود قد لا يحس بها الناس أو بنتائجها على الفور ولكنها حتما ستحدث فرقا كبيرا على المدى الطويل.
عبد المنعم مكي، صحفي سوداني يعمل في قسم الأخبار في الأمم المتحدة.