22/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

الأرض لمن يزرعها

كريبسو ديالو, كاتب متخصص في الشئون الأفريقية.

كريبسو ديالو
كاتب متخصص في الشئون الأفريقية.


على مر التاريخ سيطر الفلاحون على بذورهم: بالاحتفاظ أو القيام باقتسامها فيما بينهم أو يعيدون زراعتها بحرية تامة…. لكن المستجدات التي طرأت خلال اخر قرنين من الزمن قلصت هذه الاستقلالية بشكل كبير. ولقد تآكلت بشكل منهجي حقوقهم في حفظ البذور لاستخدامها في المستقبل، لاسيما بعد العديد من الاتفاقيات الدولية بدءًا من اتفاق منظمة التجارة العالمية بشأن الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية.

تواطؤ البنك الدولي والأذرع “النيوليبرالية” للولايات المتحدة الأمريكية في غزو البلدان “العالم الثالث” بمحاصيل الشركات “متعددة الجنسيات”وسلب قدرة هذه البلدان إنتاج غذائها.

ففي المكسيك شكلت “سياسة البذور” التي تم فرضها من قبل البنك الدولي في عام 1988 كجزء من “مسيرة الإصلاح الإقتصادي” المقترنة بقرض من صندوق النقد الدولي فرصة لشركة “مونسانتو” في اكتساح الاسواق.

قبل الثورة “التشافيزية” بفنزويلا في عام 2000 طرح البنك الدولي على الحكومة اجرائات أدت الي تحرير سوق البذور ورفع الدعم عن القطاع الزراعي والحد من التسهيلات التي توفرها الحكومة للمزارعين. وعلى الرغم من وجود قوانين تنظّم استخدام البذور المعدلة جينياً إلا أن الشركات بدأت بإجراء دراسات غير قانونية على القطن عام 1996 وكانت تنوي طرحها في الأسواق عام 1998.

في عام 2011 قضت محكمة العدل العليا في الهند بوقف جميع التجارب الميدانية للمحاصيل المعدّلة “جينياً” إلا أن هذا القرار جاء في وقت متأخر جداً حيث بات 95% من محصول القطن في الهند وهي ثاني أكبر دولة منتجة للقطن معتمد على بذور “مونسانتو”.

الدور الذي لعبته هيئة المعونة الأمريكية USAID في دعم شركات “البذور” متعددة الجنسيات لغزو “العالم الثالث” لا يمكن تجاهله. في “بوركينا فاسو ” دفعت بتأسيس معهد للتكنولوجيا الحيوية بالتعاون مع وزارة الزراعة وبدعم من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة منذ العام 1992 للتصديق علي توزيع بذور مونسانتو للذرة والقطن في الريف “البوريكني”

الصورة تزداد تعقيداً بدخول المؤسسات “الخيرية” NGOs الأمريكية في المعادلة. لعل أبرز هذه المؤسسات لدى الحديث عن مونسانتو هي مؤسسة بيل غيتس “The Gates Foundation” بالشراكة مع الحكومة الأمريكية المؤسسة تمول بعشرات المليارات من الدولارات برامج لدعم الزراعة في أفريقيا من خلال الضغط باتجاه خصخصة القطاع الزراعي وإدخال التكنولوجيا الحيوية للعديد من البلدان الأفريقية.

مؤسسة غيتس استثمرت في أكثر من 27 مليون دولار في شركة مونسانتو عام 2011 وبذلك، تستعرض إعلامياً تقديمها ل “مساعدات” لدول أفريقيا من جهة وتجني أرباحاً هائلة من الجهة الأخرى.

أما في البلدان التي فشلت جميع هذه الاستراتيجيات بوضعها تحت رحمة شركة “مونسانتو” لم تتوانى الشركة عن ابتكار طرق أكثر التواءاً للحصول على مرادها. ففي البرازيل عندما بدأت الشركة ببيع منتجاتها عام 1996، كان القانون المحلي يتيح للمزارعين استخراج البذور من محاصيلهم الخاصة إلا أن الشركة أشاحت بوجهها عن هذه الممارسة التي تعد خرقاً لشروط براءة الاختراع فبدأت بذورها تظهر بشكل غامض في محاصيل فول الصويا في دول مجاورة منها الأرجنيتن وبراغواي وهما دولتين كانتا تحظران زراعة المحاصيل المعدّلة جينياً. يبدو أن شركة “مونسانتو” وعلى مدار 10 أعوام كانت تنتظر تهريب بذورها للدول المجاورة وتلوُث محاصيلهم بعد أن كانت خالية تماما من أي بذور معدلة جينياًً بالتالي لم تجد كل من البراغواي والارجنتين مفراً من سن قوانين تسمح باستخدام البذور المعدلة جينياً بعد أن تلوثت محاصيلهم ولم يعد بوسعهم تصديرها للدول التي لا تقبل بدخول المحاصيل المعدلة جينياً أو التي تتطلب عنونتها.

بالطبع بعد أن أصبحت زراعة البذور المعدلة جينيناً مسموحة في كل من الأرجنتين وبراغواي دخلت شركة “مونسانتو” وبدأت باتخاذ الرسوم على كل طن منتج من فول الصويا في البلدين أما الفلاحين غير القادرين على شراء بذور “مونسانتو” ودفع مستحقات براءة الاختراع، فقد فقدوا حرفتهم ومصدر رزقهم. خلال 7 سنوات، ما بين الأعوام 2004 و2011، بات 75% من إنتاج الأرجنتين من “فول الصويا” ملك لشركات أوروبية. النتيجة هي أن محاصيل فول الصويا أصبحت ترش بالمبيدات بواسطة طائرات في عموم براغواي ودون النظر علي مصادر المياه الذي يشرب منها الحيوانات والبشر الذين يقطنون هذه المناطق، مما زاد من هجرات الريف باتجاه المدينة هرباً من السموم “الكيميائية”.

ونفوذ شركة “مونسانتو” دفع الكثيرين بالشك بأنها وراء الانقلاب على الرئيس “فرناند لوغو” عام 2012 حيث أنه رفض الموافقة على زراعة بذور القطن الخاصة بالشركة في الباراغواي.

واختراق شركات “البذور” متعددة الجنسيات في قارتنا الافريقية بقي سريعا وأسهل نظرا لضعف المؤسسات الحكومية وآليات محاسبة وتفشي الفساد والمحسوبية فذلك اتاح لهم فرصة ذهبية ليس فقط للسلب والنهب وإنما للإنتهاكات العميقة لثروات البلاد وتراثها ومواردها الثمينة لو لم ننتبه سوف ندفع الثمن غالي وآثارا دائمة لا رجعة فيها ولا يمكن تداركها لاحقا على الصحة والبيئة وعلى نمط الزراعة.