أزمة الحوكمة… المسمار الأخير في “نعش” الثورة السودانية
هيثم كرار
باحث في قضايا الحكم والتنمية
باتت أزمة الحوكمة سمة ملازمة للنخب السياسية في الحكومة والمعارضة على حد سواء. فالحوكمة باختصار تشير لطريقة اتخاذ وتنفيذ القرارات. أما فيما يتعلق بالدولة، فهي تشمل الإطار المؤسسي الذي يحدد من يحصل علي ماذا و كيف.
من هذا المنظور، فعلي الرغم من ان الحكومة الانتقالية قد أعلنت عن ١٠ أولويات خلال ال ٢٠٠ يوم الأولي من الحكم، تصب جميعها في مسار الحكم الرشيد وتعزيز الديمقراطية – من ضمنها مكافحة الفساد- إلا أن سياسات حكومة الثورة لا تتسق مع مراميها. فعديد القرارات التي صدرت مؤخرا قد تم التراجع عنها او معالجتها بقرارات أكثر فداحة. علي سبيل المثال، أصدرت وزارة التجارة و الصناعة قرارا سياسيا مفاجئا بمنع الأجانب و المجنسين من التجارة بالسودان، تلاه قرار آخر بمنع تصدير الفول السوداني، ثم إغلاق عدد من الصحف والقنوات الإعلامية بقوة السلاح و بمعزل عن السلطة القضائية. مؤخرا، أعلنت السلطات السودانية عن إغلاق كافة المعابر البرية والجوية دون إعطاء فسحة من الوقت لشركات النقل والمسافرين لتوفيق أوضاعهم. كل هذه القرارات، والتي تم تعديلها لأسباب سياسية وقانونية، تشير لخلل منهجي في طريقة اتخاذ وتنفيذ القرارات، والتي كثيرا ما تتّسم بحس ثوري لا يتناسب مع صنعة الدولة وسياساتها العامة.
نفس الأمر ينطبق على آلية التعيين -الخفيّة- بجهاز الخدمة المدنية. فالشاهد في الأمر أن طريقة الإحلال والإبدال خلال الشهور الماضية تشهد حالة من الفوضى المقنّنة. فقرار إعادة المفصولين للصالح العام نتيجة سياسة التمكين التي انتهجها نظام الإسلام السياسي عقب الانقلاب العسكري في العام ١٩٨٩، والذين يفوق عددهم المئات، لدولاب الخدمة المدنية، يوحي بأن العقلية التي تدير البلاد مازالت عاجزة عن بناء رؤية للمستقبل. فبعيدا عن حالة الترهل الوظيفي في القطاع العام والأزمة الاقتصادية الخانقة، فإن اعادة آلاف المفصولين تعسّفا، والذين يتراوح متوسط أعمارهم ما بين (٥٠-٦٠عاما)، علي أقل تقدير، في دولة يافعة يشكل فيها فئة الشباب دون (٤٠عاما) حوالي (٧٠٪) من مواطنيها، مؤشر لأزمة بالغة في التخطيط الاستراتيجي.
الشاهد في الأمر، أن من بذلوا حياتهم رخيصة في سبيل الثورة، ووقفوا عليها حتى استوى عودها، لم يحصدوا- بعد مرور عام علي سقوط النظام- سوى بعض الذكريات وكثير من المرارات، فما زالت معدلات البطالة وسط الشباب في ازدياد مضطرد.
أشار آخر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية الي استشراء الفساد في السودان، تحديدا في القطاع العام، وفقا لاستطلاع عن أدائه خلال العام المنصرم. فقد اشار التقرير الي ان ما يفوق ٨٠٪ من المواطنين أكدوا علي فشل الدولة في الحد من الفساد.
استبشر الجميع، بمن فيهم كاتب هذه السطور، بسقوط نظام البشير ولكن هل تغيرت الامور؟ لا. فظاهرة الفساد لم تعد شأنا عابرا في السودان، بل صارت ظاهرة متغلغلة في الدولة والمجتمع، كما انها مؤشر لأزمة الحوكمة وفشل السياسات العامة. وفقا لدراسات حديثة في هذا المجال، فان العوامل المحفزة علي الفساد تندرج تحت نموذجين: الاول ه ونموذج الوكيل و الموكّل، حيث تنحصر فيه المسببات في العلاقة ما بين المواطن وموظف الدولة، وهو ما يتعارف عليه في العلوم السياسية (principle-agent model).
أما نموذج الفعل الجمعي (Collective action model) والذي تتسم به أغلب الدول النامية، تلك التي ترزح تحت وطأة أنظمة غير ديمقراطية، فمحفزات الفساد تتخذ فيها بعدا مؤسسيا، وتسود على منهج الدولة وقيم المجتمع بحيث يخدم نظام الحكم قلّة من المجتمع علي حساب الجماعة (Patrimonialism).
وضع الفساد في السودان يندرج تحت النموذج الأخير، حيث أن تجاوز القوانين واللوائح العامة واستغلال السلطة الموكلة للمنفعة الشخصية يظل القاعدة لا الاستثناء. فالقفز علي القوانين واللوائح المنظِّمة للشأن العام، كقانون الخدمة المدنية، والذي يؤكد علي وجوب الحصول علي الوظائف القومية عن طريق المنافسة الحرة عبر المقابلات الشخصية أو مراكز الاختبارات المتخصصة، يعيد انتاج سياسة التمكين التي اتبعها نظام الإسلام السياسي، و التي أدت الي انهيار الجهاز البيروقراطي للدولة. فسياسة التعيينات في حكومة الثورة تفتقد لمعايير واضحة، فتارة يتعلق الأمر بالروح الثورية والعزم علي تفكيك النظام السابق، ثم الايمان بإعلان الحرية والتغيير، ومؤخرا بالرصيد النضالي. فصارت الوظيفة العامة مكافئة وحق من يملك لمن لا يستحق. تنطبق هذه الكوميديا السوداء على مقولة للأكاديمي “جويل ميقديل” مفادها بان من يتحصل علي الدولة يتحصل علي كل شيء.
نفس الامر ينطبق على قضية شركة الفاخر والتي تحصلت على امتياز تصدير الذهب مقابل توفير شحنات من السلع الاستراتيجية، كالوقود والقمح، في ظل فشل الدولة علي استيفاء المبالغ المالية المطلوبة في وقتها. أثارت القضية قلقا بالغا نسبة لتجاوز وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لقانون المشتريات، والتعاقدات والتخلّص من الفائض للعام ٢٠١٠، والذي يؤكد علي وجوب خضوع عملية التعاقدات لكافة اشتراطات الشفافية والمنافسة الحرة، لتلافي التلاعب في العطاءات. على الرغم من أن تآكل مخزون السلع الاستراتيجية هو ما اضطر الدولة لتجاوز القانون، الا أن ما ترتب علي هذه الازمة اكثر فداحة، و ذلك بترسيخ نظام مؤسسي غير منصف.
ما يعني القارئ في شأن ازمة الحوكمة في السودان انها لا ترتبط بنهج سياسي ما، أو طبقة معينة، او إثنية محددة. فسقوط نظام الإسلام السياسي لا يعني- باي حال- انقضاء عهد الفساد، لا لشيء سوي لارتباطه الوثيق بطرائق اتخاذ وتنفيذ السياسات العامة للدولة، بغض النظر عن دوافعها ومحدداتها.
في حقيقة الامر، فان تزايد معدل الفساد يشير لوقوع الدولة في براثن التخلّف. لقد أشار المفكر الألماني ماكس ڤيبر انه فقط في الدولة الحديثة لا تكون المناصب العامة مصدرا للثراء واستغلال السلطة. عليه، يمكن استقراء الوضع في السودان باعتباره دليل دامغ علي غياب الدولة الحديثة: دولة المواطنة والمؤسسات.
ختاماً، لا يتملكني أدني شك في عفّة أغلب من تسنّم- أو يطمح- لمنصب عام في الدولة، لخدمة اهداف الثورة، والمساهمة في كتابة مستقبل مشرق للسودان. ولكن كما قيل في الأثر، فإن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. ربما آن الاوان لقادة التغيير في السودان أن يعوا بأن بذرة انهيار نظام الإسلام السياسي لم تنفتق الاّ بعد أن سقتها أمطار الفساد.
هيثم كرار
باحث في قضايا الحكم والتنمية
Email: [email protected]