22/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

فتحي الضو يكتب : فصل الدين عن الكورونا

على إثر ظهور وتفشي وباء الكورونا في نهاية العام الماضي، قامت جمهورية الصين الشعبية التي ظهر فيها الوباء ابتداءً، بمنافسة نفسها بنفسها، وذلك من خلال سلسلة إجراءات صارمة وحازمة هدفت لاحتواء المرض. وبعدئذٍ أصبح ما قامت به درساً يُحتذى به في مضمار الإنسانية.

فما الذي فعلته الصين تحديداً وأدى إلى انحسار الوباء بشكل ملحوظ عن مواطنيها؟ يمكن القول إن ما فعلته اختصاراً هو درس عنوانه *(لا مستحيل تحت الشمس)* إذ قامت بداية بأكبر عملية حجر صحي في التاريخ. وذلك بعزل نحو ستين مليون نسمة – هم عدد سكان مقاطعة هُوبي – عن بقية مقاطعاتها ومدنها المختلفة.

وتضم المقاطعة المذكورة مدينة أُوُوهان التي ظهر فيها المرض وانتشر بصورة جنونية. وإزاء ذلك انكفأت الصين على نفسها دون إحداث أي ضجيج، وخاضت التجربة في ملحمة أشبه بمَلاحِم الميثولوجيا الإغريقية، استخدمت فيها العلم والتكنلوجيا في أبهى صورها، علاوة على الإنسان الذي أظهر قدرات تكاد تكون خارقة. تمَّ كل ذلك في ظل بروبوجاندا تخويفية انهمرت من كل حدب وصوب، منذرة بانتهاء العالم بين غمضة عين وانتباهتها!

شرعت الصين في الإجراءات التطبيبية بعمل دؤوب تواصل فيه الليل بالنهار. قامت أولاً ببناء ستة عشر مستشفى بكامل تجهيزاتها في غضون عشرة أيام فقط، ويعد ذلك رقماً قياسياً في تاريخ الهندسة المعمارية في العصر الحديث. لم تنتظر السلطات الصحية المواطنين حتى يأتوا للمستشفيات، بل ذهبت إليهم في منازلهم للقيام بفحصهم، ومن جانبهم اتبعوا تعليمات السلطات المشددة ولزموا منازلهم. كما التزمت السلطات بتوفير كل ما يحتاجونه بما في ذلك الغذاء والماء والدواء. وفي نفس الوقت تعاملت بقسوة مع كل من يخالف التعليمات، وبقسوة أكثر مع الذين أصيبوا بالوباء وأخفوا انفسهم جهلاً، وكذلك الذين ترددوا في الذهاب إلى المستشفيات خوفاً، والذين تعمدوا عدم تسليم أنفسهم طوعاً، ورأى العالم كله تلك القسوة عبر مختلف الوسائل الإعلامية، دون أن تخشى السلطات الصينية لومة لائم. ولعلها في ذلك امتثلت إلى حد ما لمقولة الفرد رزونبيرج فيلسوف النازية القائل: *(إذا كانت القسوة لازمة فلماذا لا نستخدمها لإرادتنا الوطنية)* وهو اقتباس لا يتفق معه كاتب هذه السطور. لكنه يقر بأنه لا يمكن تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة، أياً كانت دواعيها!

على الرغم من أن هذا الوباء حصد أرواح الآلاف من البشر في كثير من دول العالم، لكن من المؤكد أنه سينتهي آجلاً أم عاجلاً. ومن المؤكد أيضاً أن الذاكرة الإنسانية التي درجت على البلايا والرزايا منذ أن خلق الله الكون، سوف تدفع بهذا الحدث إلى غياهب النسيان، وقد يصبح محض ذكريات مأساوية تستقر فيها إلى حين ثم تذهب أدراج الرياح، شأنها شأن أحداث كثيرة غُبرت. لكن الذي لا جدال فيه هو أن هذا الوباء يُعد حتى الآن الحدث الأضخم في هذا العصر، رغم أن خسائره البشرية لا ترقى للملايين التي راحت ضحية الطاعون الأسود أو السل أو الكوليرا أو حتى الحروب التي هي من صُنع الإنسان نفسه. لكنه الأضخم من ناحية تمدده في رقعة جغرافية كادت أن تغطي معظم دول العالم، زاد منها معنوياً ذلك الذعر الذي أصاب حتى الذين لم يصل إلى ديارهم، بحيث أصبحت المحصلة لكأنما أصاب الوباء العالم كله ولم يستثن أحداً.

من هذه الزاوية فإن الذي لا مراء فيه، هو أن الحدث سوف يعيد ترتيب كثير من القضايا في هذا الكون العريض، سواء على صعيد العلاقات المجتمعية أو الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية وهي الأهم. إذ فتحت الدول الغنية خزائنها لتنهمر الأموال منها كالمطر، وتبدو غير عابئة باحتمال تعثرها مستقبلاً إن لم يكن الإفلاس ملازماً لبعضها. أما في أروقة الدول الفقيرة فقد رسخ أنه ليس لديها ما تفقده سوى إهدار مزيدٍ الوقت في ما لا طائل يُجنى من ورائه. وقد تمتد التأثيرات لتشمل النواحي الفسيولوجية والسيكولوجية للفرد نفسه، وذلك بغض النظر عن الرقعة الجغرافية التي يعيش فيها. خذ على سبيل المثال كيف أصبح لغسيل الأيادي ذلك الاهتمام الذي يوحي لكأنها اختراع ظهر للتو، علماً بأنه نظراً لأهميته المعروفة فهو قد خصصت له الهيئة الأممية من قبل يوماً يُسمى *(يوم غسيل الأيادي)*. ومن المتوقع أيضاً أن يسلط الحدث الضوء على قضية الحريات وحقوق الإنسان والأيدولوجيا مجدداً. وقد يدخل الأدب حلبة التنافس فنشهد نصوصاً وقصصاً وأشعاراً وروايات تتواءم مع الكارثة بمختلف اللغات. وعلى هذا المنوال سيتوالى تداعي الأمور وفق ما نزعم!

لأن التجارب الإنسانية ليس حكراً لصانعيها، يتوق المرء لو أنه صار بمقدورنا اقتباس الوجه الباهر في التجربة الصينية، ألا وهو قهر المستحيل. ونضرب في ذلك مثلاً بواقعنا الذي نعيشه، أو بالأصح نئن تحت وطأته، والمتمثل في الظروف الاقتصادية القاهرة التي أحكمت قبضتها على خناقنا. ولا نود أن نرمي باللائمة على المجتمع الدولي بحسبه تقاعس أو تباطأ أو أحجم في تقديم يد العون والمساعدة للشعب السوداني، وكان الظن أنه سيكون تقديراً لثورة فريدة وضعت بصماتها على صفحات التاريخ. وبنفس القدر لا نود أن نرمي باللائمة على الحكومة الانتقالية، باعتبار أنها وضعت كل بيضها في سلة مساعدات قد تأتي ولا تأتي. وسواء هذا أو ذاك فلعل الضرر المادي الذي ستمر به دول العالم جراء ما حاق بها من وباء الكورونا، يوضح باختصار شديد أن العون المرتجى لن يأتي مطلقاً، وعليه يَطرَح السؤال الأزلي نفسه… ما العمل؟

نعم ذلك هو سؤال الساعة، والإجابة عليه تكمن في القول السائد *(رب ضارة نافعة)* أي عدم التسليم للضرر وإمكانية تحويله إلى عمل ينفع الناس. تبعاً لذلك لا مناص من أن نواجه قدرنا كما واجهت الصين قدرها، وذلك بالانكفاء على أنفسنا لخوض أكبر عملية إنتاج في تاريخ الشعب السوداني. يعزز من فرص نجاحها وفرة الموارد الطبيعية التي تعج بها البلاد وسارت بها الركبان. وقد يعجز المرء عن حصرها، مع أنها ليست بأمر جديد أو ثروة اكتشفت حديثاً، بل ذلك هو الواقع الأليم الذي جعل بعض الناس يصفنا بالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. على كلٍ يعزز من فرص نجاح العملية الإنتاجية الضخمة أيضاً، أننا ما زلنا نعيش زخم ثورة لم تجد الفرصة حتى الآن لتنزيل قيمها ومُثلها وثقافتها إلى أرض الواقع لتُصبح مثلاً يحتذى كذلك. إنني على يقين أن ذلك كفيل ليس بإخراج البلاد من ضنك العيش الذي ترزح تحت وطأته فحسب، وإنما ستفيض خزائنها *(قمحاً ووعداً وتمنٍ)* ولسوف تُودع الفقر المصطنع، وسوف تمتد سلسلة المنافع بحيث تجعل من الوطن مثالاً – كما الصين – في قهر المستحيل!

لقد تقاعسنا كثيراً بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي كبلتنا منذ الاستقلال، وأكثرها سوءاً وتمرساً في الفساد والإفساد نظام العصبة البائد. فقد شهدنا كيف سامنا أصحاب اللحى المنسدلة سوء العذاب. وكيف عبث قرناء الكتب الصفراء بثروات البلاد، وكيف أصبح علماء الحيض والنفاس يتطاولون في البنيان والناس جوعى، وفيهم من ظل يسأل عن حرمة دم البعوض والدماء تسيل مدراراً على جانبيه. يتقدمون الصفوف عنوة وهم الجاهلون، ولا يعبأون بالسخرية مما يتفوهون. فعندما رشحت الأخبار بظهور المرض في الصين طفقوا يشيعون الوهم ويدَّعون أن ذلك غضب إلهي نتيجة ما تمارسه الحكومة الصينية مع مسلمي الروهينجا. وعندما بدأ الوباء ينتقل هنا وهناك بدأوا يسبغون على كل دولة أساطير شتى من جنس ما تضج به قواميسهم افتراءً. وعندما وصل الوباء إلى إيران انحسر صوت التكفير وعلا صوت الطائفيين ينسجون الأحابيل ويصدعون الناس بترهاتهم. وعندما وصل الوباء إلى المملكة العربية السعودية، وشرعت على الفور في عدة إجراءات، منها إلغاء صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، وإيقاف العُمرة، ثمَّ إغلاق الحرم المكي في سابقة نادرة. عندئذ لم يكتف الأمويون الجدد بالصمت، بل هرعوا إلى الأخبار يتابعونها لعل من تباروا في تكفيرهم ينجحون في اختراع مَصل يقتل الداء الوبيل، فأي أخلاق هذه يا قوم؟

في واقع الأمر أن تلك الإجراءات العقدية التي فرضها الوباء لم تكن أمراً سهلاً بحيث يمر أمام عيون الناس مرور الكرام. إذ لابد أن يخضع للتأمل مما سيكون له ما بعده، أي في سياق تداعيات الحدث بعد انجلاء المعركة مثلما توقعنا من قبل. ففي تقديري أن الخيال البشري رغم أنه وصل إلى القمر، إلا أنه لم يكن مأمولاً أن يتصور كارثة تؤدي إلى جراحات عقدية مؤلمة لم تحدث منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام. كان ذلك أمر عصياً على الإدراك.. أن تغلق دور العبادة بمختلف صورها، وأن تُمنع الصلاة جماعة في المساجد، وأن تلغي العُمرة ولربما طال الحج، وكذلك طقوس رمضان وطقوس مؤسسات رمزية دينية أيضاً. صحيح أنها إجراءات احترازية هدفها اتقاء شرور الوباء ولدفع الضرر عن الجماعة. ولكن الذي لا يمكن أن يتجادل حوله اثنان، أنها إجراءات تعني في مضمونها فصل الدين عن الكورونا. وإن شئنا الوضوح أكثر فهي قول فصل في جدلية فصل الدين عن الدولة، باعتبار أن الكورونا شأن دنيوي، أي أن علاجها أو محاصرتها أو استئصالها هو من شئون الأطباء والعلماء المنتمين للإنسانية جمعاء وليس فقهاء الدين. والمفارقة أن تلك الإجراءات قامت بها دول توصف بأنها دينية وليست علمانية. وبالطبع لو أنها شأن ديني كان أصحاب التدين الشكلاني قد تصدروا المشهد بآلياتهم المعروفة، وطلبوا من الناس التوجه نحو دور العبادة والاكتفاء بالجلوس والدعاء، باعتبار أن ذلك ابتلاء يستدعي سؤال رب العالمين أن يرفع غضبه ومقته عن عباده الضالين!

إن هذه الكوارث وأمثالها مسؤولية تضامنية بين الفرد والمجتمع والدولة، عليه لسنا في حاجة للتذكير بأن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالة البلاء من قبل أن يرتد للعبد طرف. فكلنا يعلم أن الدين أقوم مما يدَّعون. وكلنا يعلم أن الله أكبر من أن يثأر لذاته مهما اغترفت أيدي عباده من خطايا وهو القائل: *(ولا تزر وازرة وزر أُخرى)* بتأكيده في قول آخر *(كل نفس بما كسبت رهينة)* وهو القائل كذلك: *(لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)* ورسوله الكريم قال: *(لا ضرر ولا ضرار)* والدين كما هو معلوم فيه متسع لمعالجة قضايا العباد، باختلاف أجناسهم وأعراقهم وطوائفهم وألوانهم ومللهم ونحلهم وهلمجرا.. *(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)* وقد ظللنا نردد وما زلنا نقول إن الله لا يحاسب الدولة باعتبارها كافرة أو مسلمة، فالمخاطب بالحساب والعقاب هم عباده المستظلين بهويتها. وإلا فكيف تكون أمريكا *(الكافرة)* ببساطة قوة عظمى؟ ولماذا لا تحتل الصين التي لها نفس الصيت ذيل دول العالم؟ صفوة القول لقد صدقت الصين ما وعدت به في حربها ضد فايروس الكورونا أو حربها ضد المستحيل، فثمة مثل شائع في ثقافتها يقول: *(أنتظر عند المصب فحتماً سوف يحمل لك النهر جثة عدوك)* فمتى يحمل إلينا النهر جثث الذين نكدوا علينا الحياة وأصبحوا عبئاً على البشرية بما يتقيأون!؟

*آخر الكلام:* لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!

[email protected]