22/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

فتحي الضو يكتب: ما خُفِي أعظم.. آخر الدواء (البل)!

لم يكن منظوراً أن تتعثر خطى ثورة عظيمة كثورة ديسمبر، كل هذا التعثر وتتنكب الوصول لنهاياتها المنطقية لدرجة الشفقة. فمنذ تكوين الحكومة الانتقالية والمشاكل تتفاقم يوماً إثر يوم، بل ربما على مدار الساعة. وكلنا يعلم إنها لم تكن وليدة المائة وخمسين يوماً والتي هي عمر تلك الحكومة، ولكنها من صنع الأبالسة الذين تفانوا في العمل سراً وجهراً، بهمة ونشاط دائبين للتقليل من شأنها. وطفقوا يوصمونها بكل خطاياهم التي جبوا بها أفعال الشياطين. فإن تعثرت شاة – على سبيل المثال – في واحدة من الدول المجاورة، ذرفوا دموع التماسيح وقالوا أنظروا لحكومة الحرية والتغيير التي نزع الله الرحمة من قلوب سدنتها. وبالرغم من أن تلك الممارسات فاقت حد الاحتمال، إلا أنه لم يكن ثمة مناص من أن يبدي الثوار صبراً ضارع صبر أيوب، ولم يتركوا فضيلة من فضائل التسامح إلا وطرقوا بابها، من أجل الحفاظ على الثورة!

بيد أن أزلام السلطة البائدة فسروا الحُلم ضعفاً والصمت خُنوعاً، فظلوا في غيهم يعمهون. ثمَّ شرعوا يخادعون الناس في التشدق بالوطنية التي اكتشفوها فجأة بعد غيبوبة دامت ثلاثة عقود عجاف، ويتحدثون عن الأخلاق وهم من دمرها وأوصلها إلى دركٍ سحيقٍ. فقد عاثوا فساداً تململت لسيرته الأجنة في الأرحام. لم يتركوا موبقة من موبقات الدنيا إلا واغترفوا منها ملء بطونهم. يظنون أن الكذب هو أقصر الطرق التي تقربهم إلى الله. نهشوا خيرات الوطن حتى كادوا أن يفقروه. تباروا في ممارسة الرذائل لكأنهم جاءوا في مهمة رسالية. ولأن كل إناء بما فيه ينضح عمدوا إلى اختزال قيم الثورة، إذ صورت لهم نفوسهم المريضة أنها ثورة من أجل الخبز والوقود، وليست تلك الثورة التي ملأت سيرتها الآفاق، باعتبارها ثورة كرامة اندلعت لتستنهض القيم التي داسوا عليها وضعضعوها!

من أجل كل ذلك كان لابد أن تراوح الأزمة الوطنية مكانها بعد ان أغرقوا الناس في تلك المعادلة الصفرية، بينما استمروا هم في غيهم سادرون. استغلوا سماحة الثورة وشعارها المتمثل في *(السلمية)*. ثمَّ اتَّبعوا وسائل التضليل التي جُبلوا عليها، وأوهموا البعض بأنهم استسلموا للأمر الواقع. وادَّعوا أنهم يريدون العيش في وطن يسع الجميع كما يقولون، وهم يعلمون أن تلك فرية لا يعضدها منطق ولا يسندها واقع، وأنها محض حيلة تكفل للفاسدين منهم الإفلات من المحاسبة إن تطاول أمدها. تراهم يسبِّحُون بحمد الثورة نهاراً وعندما يرخي الليل سدوله يكيدون لها كيداً. يتظاهرون بالإذعان ولكنهم يتحرون اللحظة التي تغمض فيها عيون الثورة لينقضوا عليها. بأفعالهم وأقوالهم تربعوا على رأس قائمة المنافقين، وآية المنافق ثلاث *إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان!*

لعل أكثر ما يستفز الشرفاء ويثير كوامن الغضب في نفوسهم رؤية صحافيي الغفلة الذين تغولوا على السلطة الرابعة على حين غرَّة. أصبحوا الآن الأعلى صوتاً في الخداع بعد أن كلَّت أيديهم من تزيين وجه الديكتاتورية البائدة. كانوا يكيلون للطاغية المدح والثناء حتى تنتفخ أوداجه طرباً، ويبسطون له خدودهم ليطأها وهم صاغرون. إذا جاع الشعب قالوا له لم نسمع سيمفونية أعظم من هذه التي تعزفها البطون الجائعة. وإذا حدثهم أحد عن الحريات المغتصبة ضربت عليهم الذُّلَّة والمسكنة، وادَّعوا أنهم لم يروا ترفاً مثل هذا منذ خروج المستعمر من البلاد. بل إذا شكا الناس نقصاً في الأنفس جراء الحروب العبثية، رددوا على مسامع الديكتاتور ما يستلذ له، وقالوا ما حاجتنا لذاك الفائض البشري. ومن عجبٍ أن تلك الترهات الخادشة للحياء الإنساني تنشر على الملأ وهم لا يستحون!

رؤساء تحرير مجازاً وكُتَّاب افتراضاً، ينفثون سمومهم وتعرفونهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود للطغاة، فقد دأبوا على الكتابة ببطونهم والتفكير بأفواههم. رضعوا من ثدي الديكتاتوريات فتورمت جسومهم، ونهلوا من ضرع الشموليات فتبلدت عقولهم، لذا أصبح فطامهم عسيراً وعصياً. أنظروا لهذه الوقاحة، إذ ابتدر أحدهم مقاله أي خزعبلاته بقول فصل: *(نبهت الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء مراراً…)* حقاً صدق القائل *(من أمن العقاب أساء الأدب)*، تأملوا قول هذا الدعي الذي ما كان ليجرؤ أن يطيل النظر في وجه أولياء نعمته، والآن يظن أن الناس من السذاجة بحيث يمكن استغفالهم كيفما اتفق. هو وصحبه الأبرار مُلاك الأراضي والعقارات والأسهم والأموال المكدسة، يعلمون أنهم يقتاتون حقوق هذا الشعب، إذا نظروا لجيوبهم سيجدونها أكثر اتساعاً للنفاق وأضيق مكاناً للمُثل والأخلاق والقيم النبيلة!

من المؤكد أن شرفاء المهنة الذين صنعوا مجد هذه الثورة من حر أقلامهم ينظرون لهذه الغثاثة والسماجة وهم يتميزون من الغيظ، فليس هناك ما هو أقسى وأمر على النفس من أن يصبحوا متفرجين، وهناك المتطاولون في المهنة يتسنمونها لاعبين. يظنون أنفسهم انقياء *و(الجحيم هم الآخرون)* كما قال جون بول سارتر. في حين أن الآخرين هؤلاء هم الذين حملوا قضية هذا الشعب وهناً على وهن، وهم الذين لم تملْ عيونهم أو تكلْ جنوبهم من التحديق في الفضاء بُغية استمطار الحُلم العصي. وهم الذين رابطوا في الخارج في مهاجر قاسية لا ترحم، وربطوا على بطونهم في الداخل تفادياً لمذلة السؤال. وهم الذين خرجوا شاهرين هتافهم كأنهم في سباق مع عدالة السماء، وعندما لاح النصر المؤزر عفَّوُا عند المغنم، وهم من خرجت من أصلابهم تلك الذرية صانعة الثورة وحاضنة جذوتها التي لا تموت!

ستظل الأزمات تطل برأسها بين الفينة والأخرى، وكلما تمددت المحنة قصُرت الفترة الانتقالية، وقد تنتهي من حيث لا نحتسب. وعليه ليس ثمة مناص من الركون إلى آخر الدواء (البل) لتصحيح المسار، والوفاء لدماء الشهداء وتحقيق أهداف هذه الثورة العظيمة، من أجل الوصول بها إلى نهاياتها المنطقية، توخياً لتأسيس دولة الحرية والعدالة والسلام، وكل ذلك لن يتأتى إلا بإنجاز المهام الثورية الست التالية والتي في تقديرنا تمثل مفاتيح الأزمة الحقيقية، وليست الوقود أو الخبز:

*أولا:* تسليم الرئيس المخلوع، وكذا الثلاثة العظام إلى المحكمة الجنائية بأعجل ما تيسر. ذلك من شأنه تحقيق عدة أهداف في وقت واحد. أولها ترسيخ مصداقية الثورة السودانية في أذهان المجتمع الدولي، وثانياً سيفتح الوطن صفحة جديدة مع العالم قاطبة، وسيكون لتلك الخطوة مردوداً إيجابياً، يفتح الطريق لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو الهدف الاستراتيجي الذي يتوقف عليه تبادل المصالح والمنافع بين السودان والمنظومة الدولية. ومن شأن القرار أيضاً أن يبرهن مدى الوفاء للشهداء الذين مهروا الثورة بدمائهم، والقصاص لضحايا الإبادة الجماعية.

*ثانياً:* استخدام الشرعية الثورية في إقصاء كل أزلام النظام وسدنته الساقطين أخلاقياً والمجرمين جنائياً، وذلك بتسريع الخطى في محاكمتهم علنياً ليكونوا عظة وعبرة لكل معتدٍ أثيم. ذلك إلى جانب تطهير الخدمة المدنية من كل الأفاكين والمندسين، وتُفتح السجون لاستقبال الفاسدين (بالنظر) حتى تثبت براءتهم، إذ لا يستقيم عقلاً أن يكونوا طلقاء يمشون بين الناس وظهورهم تحمل أطناناً من الأوزار. فقد ثبت أن هؤلاء هم من يقف حجر عثرة أمام تقدم الثورة لإنجاز مهامها التاريخية. 

*ثالثاً:* يتزامن مع ذلك إصلاح الجهاز العدلي، فهو أساس الحكم، وهو الركن الثالث ضمن أركان الثورة المجيدة، وحتى تتأَسس دولة القانون على الوجه الأكمل، ينبغي توجيه الطاقات وحشد الإمكانات المادية والبشرية لتكون عوناً في تحقيق تلك الغاية، مما سيكفل المحاسبة التي نتطلع إليها، لينال كل مجرم تلوثت يديه بدماء الشهداء الأبرار نصيبه من العقاب!

*رابعاً:* حل جهاز الأمن تدريجياً بتسريح فائض العمالة الذي يُعج بها، لربما يغدو جهازاً رشيقاً يُعنى بالأمن الخارجي، وجمع المعلومات وتحليلها على مستوى الأمن الداخلي. كذلك إصلاح الجهاز الشرطي بعد ما اتضح أن *(شهاب الدين أظرط من أخيه)* كما يقول المثل الشائع. فكلهم في السوء شرق. على أن يشمل الإصلاح الضلع الثالث من الأجهزة النظامية وهي القوات المسلحة، وفي جوفها تلك القنبلة الموقوتة التي تسمى قوات الدعم السريع!

*خامساً:* الإعلان فوراً عن تشكيل المجلس التشريعي، ذلك من شأنه أن يزيح عبئاً رُزِئَ به المُكون المدني في مجلس السيادة وكذا المجلس التنفيذي الوزاري. ولعل غياب المجلس التشريعي جعل ميزان الشراكة في حالة اضطراب دائم، نتيجة تربص المكون العسكري بالسلطة وتمدد تجاوزاته بما لا يمكن أن يطاق!

*سادساً:* إيقاف جميع الصحف عدا الصحف الحزبية والرياضية والفنية، وذلك إلى حين صدور قانون ينظم قواعد المهنة بما يتواءم والقيم التي بذرتها الثورة المجيدة. وقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن غالبية تلك الصحف أصبحت عبارة عن *(مواخير)* يرتع فيها صبية النظام ليبثوا من خلالها سمومهم القاتلة!

تلك هي فروض واجبة الأداء كما نرى، هذا إن شئنا العبور بهذه الثورة إلى مرساها، وجنبناها شرور هذا التعثر المرهق. وريثما يتم إنجاز هذه الفروض، فتلقائياً سوف نجد أن ثمة نوافل كثيرة ستأتي لاحقاً.. مثل ضرورة وضع الحكومة يدها على أصول الشركات كافة والتي لا تتبع لوزارة المالية، وملاحقة الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، وتعيين الولاة المدنيين، والوصول بمفاوضات السلام لمنتهاها، وتفكيك كل مفاصل الدولة المختطفة، علماً بأنه هدف سوف يستمر طويلاً، مثلما الإقصاء كذلك، وذلك نظراً لتمدد السلطة *(العنكبوتية)* البائدة في أروقة الدولة.

فإن لم نضع هذه القضايا نصب أعيننا، وأدركنا أن التركيز فيها يعني الخروج من النفق المظلم، فلسوف تتعثر عندئذٍ خطانا مثلما تعثرت من قبل، وسنظل ندور حول محوري الخبز والوقود كثور الساقية، ونظُن وهماً أنهما الأزمة!

*آخر الكلام:* لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

[email protected]

*تنويه:* هذا المقال كُتب قبل حدوث المحاولة الآثمة والفاشلة التي جرت لرئيس الوزراء أمس الأول!