18/4/2020
فتحي الضَّو
قبل نحو أكثر من ثلاثين عاماً – أثناء حديثنا في شأن ما – قلت له تلك العبارة المأثورة: أنت تعلم يا أخي نحن نحبك لله في الله، لا طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك. فابتسم فاروق أبو عيسى، تلك الابتسامة الوضيئة التي يكاد يجزم من يراها أنها لم تفارقه طوال حياته، بل ربما في أحلك الظروف وأصعبها.
ربت على كتفي، وقال لي بذات الابتسامة التي اتسعت: الحمد لله لا عندي جنة ولا عندي نار. قلت له: لكن عندك إرث نضالي نستلهمه منك في حياتنا. وبعد أن توطدت العلاقة بيننا كان ذلك ما حدث بالفعل، ليس معي وحدي فحسب، وإنما مع الكثيرين الذين عرفوه عن قرب وخبروا معدنه عن كثب.على ذاك المنوال سارت علاقتنا معاً، وأشهد أن فاروقاً بادلني فيها حباً بحب.
وبرغم أن مبعثها الهم الوطني في الأساس، إلا أنه يمكنني القول إن الشعور الإنساني طغى عليها في أحايين عدة، فتحطمت جراء حواجز كثيرة تباعد بين الناس، فلا غرو أن كنت أشعر دائماً أنه يعاملني معاملة الشقيق الأصغر.
وهي خصلة لمسها كثير من أصدقائنا المشتركين بالغرائز المتباينة التي جُبل عليها بني البشر.
ومن المفارقات التي تؤيد زعم ما ذهبت إليه، أذكر أنني لم أجر معه حواراً صحفياً في الشأن الوطني سوى مرة واحدة على مدى السنوات المذكورة. وهو الحوار الذي ضمنته كتابي الأول بعنوان *(محنة النخبة السودانية)* والذي صدر في العام 1993.
بيد أنه عوضاً عن ذلك ونظراً لثقته الكبيرة في شخصي، كان كثيراً ما يخصني بأشياء، إما قبل أن يطلع عليها الآخرون، أو لأجل هدف محدد يرومه بنظرة ثاقبة عُرف بها. وفي واقع الأمر هي ثقة بُنيت على مواقف وتجارب ثرة، ولو قدر لي أن أميط اللثام عنها يوماً، فسوف يدرك متلقيها كيف ولماذا تراكمت عبر السنين؟ ولن تعدم من يمني النفس بتكرارها لولا أنه لكل أجل كتاب. فهي تكشف عن وجه آخر لا يعرفه الكثيرون عن الأستاذ فاروق أبو عيسى، بعد أن درجوا على معرفته من خلال النشاط السياسي الذي دأب عليه منذ بواكير حياته وحتى الرمق الأخير منها.
ومع ذلك فالسياسة عنده لم تكن ترفاً يتعاطاه عند المناسبات، وإنما هي نضالٌ دؤوبٌ، وسيرٌ في دروب شائكة، وتمسكٌ صلبٌ بالمواقف التي تنحاز لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
وهي القيم الإنسانية النبيلة التي وطَّن نفسه عليها منذ أن بدأ يشقَ طريقه في دروب النضال. تلك المسيرة التي بدأت بمناهضة الاستعمار، وكان حينذاك يرتقي مدارج التعليم في جامعة الإسكندرية.
وبعد تخرجه في العام 1957 عاد للسودان ليواصل تلك المسيرة في إطار انتمائه للحزب الشيوعي السوداني، ثمَّ مناضلاً جسوراً ضد الديكتاتورية الأولى، والتي ارتبط اسمه فيها بــ *(ليلة المتاريس)* الشهيرة. ولا يخالجني أدني شك، في أن *(التروس)* التي ابتكرها ثوار ثورة ديسمبر هي استلهامٌ لتاريخ تلك الليلة.
فالثورات كما نعلم جندٌ مجندة ما تعارف منها ائتلف!استقر بنا الحال في القاهرة مطلع التسعينات، بعد نزوحنا من الكويت إثر الغزو العراقي، سألت الأستاذ فاروق أن يعطيني مذكراته عن ثورة أكتوبر لكي أقوم بتحريرها.
فأبدى لي زهداً أعرفه عنه، ولكنني ألححت فاستجاب. والحقيقة أنه استجاب بعد أن قلت له إنني لا أريد البقاء في القاهرة وأود الهجرة لدولة أخرى، فقال لي ممازحاً: ماشي وين بعيد وكلها شهر شهرين وينتهي أمر النظام الديكتاتوري البغيض.
فقد كان متفائلاً وذلك ديدنه على الدوام. فعندما يسري الإحباط بين بعض الناس تجده يشد من أزرهم.
سلمني حينذاك ثلاث كراسات بخط اليد، وشريطاً مسجلاً. وأدركت أنها حيلة لاستبقائي في القاهرة فسعدت بما ظفرت، ثمَّ انهمكت في إنجاز المهمة إلى أن فرغت منها، وأعدتها له طالباً مراجعتها.
الأمر الذي لم يتم لفترة طويلة من الزمن، وكلما سألته عنها تعذَّر بكثرة العمل في اتحاد المحامين والسفر المتواصل، علاوة على النشاط السياسي.
غادرت القاهرة إلى منطقة القرن الأفريقي في منتصف العام 1993 ولكن لم ينقطع إلحاحي وسؤالي الدائم عن المادة، سواء من البعد أو في أثناء زياراتي المتكررة للقاهرة. وذات مرة أعلمني بأنه أعطاها لأحد الناشرين من بني جلدتنا. وهذا بدوره تلكأ فأخذها فاروق منه وسلمها لناشر آخر، وهذا أيضاً تعامل مع المادة مثلما فعل صنوه السابق، وبين هذا وذاك، أصبح رده الدائم أنه لا يعلم أين انتهى بها المطاف.
والحقيقة لم أخف لومي له وحزني على تلك المادة، وما زلت أمني النفس بأن ترى النور في ظل إهمال تاريخنا الذي يختبئ في الصدور أولاً ومن ثمَّ يتوسد القبور!تلك السنوات الأوائل من حقبة التسعينات تجلت فيها قدرات الأستاذ فاروق أبو عيسى، فمع توافد آخرين نحو العاصمة المصرية بدأ تأسيس عمل تنظيمي مناهض لجلاوزة نظام الحركة الإسلاموية، الذين تجبروا وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد بكل صنوفه القميئة.
بدأ التأسيس بما سُمي *(لجنة التنسيق العليا)* والتي أفضت فيما بعد إلى *(التجمع الوطني الديمقراطي)* وكانت فترة مضنية للراحل المقيم والذي كثَّف الدور الريادي فيها، رغم وعثاء السفر، وهو دور حفظناه له توثيقاً في كتابنا الثالث المعنون *(سقوط الأقنعة/ سنوات الأمل والخيبة)* بعد أن تراءى لنا أن ثمة انتهازيين نعرفهم بسيماهم سولت لهم نفوسهم المريضة الاستيلاء على جهد الآخرين. وهم يعلمون أن فاروقاً ليس ممن يتهافتون لتزوير التاريخ! إن سيرة الفقيد على صعيد اتحاد المحامين العرب إنجازاً ينبغي أن يعتز به كل السودان، فقد بث في الاتحاد روحاً جديدة، وجعل منه منارةً يُشار لها بالبنان بعد أن كان محض منظمة بيروقراطية كسائر المنظمات العاطلة في العالم العربي.
فقد عَضدت خبراته الثرة في مضمار منظمات المجتمع المدني والكيانات الحقوقية النقابية من انجاز تلك المهمة التاريخية.
ونظراً لتلك الجهود لم يكن غريباً أن يُنتخب لذلك المنصب لنحو خمس دورات متواصلة، الأمر الذي لم يحدث من قبل ولا من بعد.
علماً بأن الاتحاد لم يختص بالقضية السودانية وحدها، وإن كان له القِدح المُعلَّى فيها. ولعلي أذكر في هذا الصدد – من باب المعايشة عن قرب – الظروف التي كادت أن تعصف بالاتحاد إبان حدوث أزمة الخليج بعد احتلال العراق للكويت.
فقد كانت تمثل تحدياً لفاروق الذي استطاع أن يَعبُر بالاتحاد نحو البقاء والتماسك.كثيرون غيري يحفظون للأستاذ فاروق تفاعله الإنساني مع قضايا السودانيين المهاجرين بعد أن بعثرهم النظام وتشتتوا في بقاع الأرض، وغالبيتهم يمموا وجوههم شطر القاهرة نظراً للقرب الجغرافي.
حينها تمخض اهتمامه بالقضية وأثمرت جهوده عن استحداث الهيئة الأممية برنامجاً خاصاً بإعادة توطين السودانيين تحت مظلة المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة لها. وسُجل البرنامج تحت اسمه في أضابير الأمم المتحدة إلى يومنا هذا.
وبفضل ذلك اغتنم الكثيرون الفرصة وهاجروا إلى دول الغرب وأوروبا، فحفظ للكثيرين كرامتهم في مواجهة ضنك معيشي ومشاكل اجتماعية تفاقمت بعد تعمد النظام تفريغ البلاد من أهلها، بغية أن يطيب له الفساد والاستبداد!عوداً على بدء، لعل سيرة ومسيرة أكثر من ثلاثين عاماً، أكدت ما أشرت إليه في حديث المقدمة من أن الأستاذ فاروق أبو عيسى سيظل كتاباً مفتوحاً ولم يطوي الموت صفحاته.
وسيظل تاريخه الناصع نبراساً يضيء دياجير الظلام. وهو تاريخ نضالي ثر على المستويين السياسي والنقابي وثالثهما الإنساني. رغم فداحة الفقد إلا أن عزاءنا أن الأستاذ فاروق أبو عيسى أغمض عينيه بعد أن شهد سقوط الطاغية ونظامه البغيض. وليكن عهدنا له بتكملة المسيرة ورمي أزلام النظام في مزبلة التاريخ!
*آخر العزاء:* لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!