إعدامات بالجملة وتصفية على الهوية .. انتكاسات كارثية لحقوق الإنسان في الساحل الإفريقي
أحمد فوزي سالم
أزمة إنسانية كبرى، انتهاكات مستمرة بحق سكان الساحل على الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، عمليات قتل غير قانوني، واختفاء قسري، من جراء صراع دموي وصفري بين الجيوش الثلاثة التيارات الإسلامية التكفيرية، ووسط هذه المجازر تضيع العدالة الناجزة والضمانات القانونية المطلوبة لحماية السكان وخاصة غير المنخرط منهم في أنشطة غير قانونية.
الساحل .. صراع على الهوية
قبل الانخراط في إدانة ما يحدث، يجب أولا معرفة تعقيدات الأزمة هناك، فالجماعات التكفيرية المتشددة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا زادت بمعدل غير مسبوق، وما بدأ منها كحركة تمرد إسلامي في مالي عام 2012 توسع بشدة لدرجة أنه انفجر خارج الحدود إلى الدول المجاورة، بدأت بالنيجر وانتهت مؤقتا عند بوركينا فاسو.
توحشت الهجمات بشدة في منطقة الساحل، وهاجم التكفيريون قاعدة عسكرية في منطقة إينيتس بالنيجر وقتلوا 70 شخصًا، وتزامن مع ذلك تدبير هجمات في بوركينا فاسو، كما هاجموا قاعدة عسكرية في مالي ونجحوا في قتل 49 شخصا.
أصبحت الدول الساحلية لغرب إفريقيا معرضة للخطر الشديد بسبب هذه الجماعات التي تنتهج أساليب متوحشة على رأسهم تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ومع الوقت تزداد قوة وتتنوع هجماتهم لشل قدرات هذه الدول، ولاسيما أنها تهاجم مؤسسات وشركات اقتصادية ومطاعم وفنادق في الوقت الذي تهاجم فيه الدوريات والأكمنة والقواعد العسكرية.
وتضم الجماعات الإرهابية مئات المقاتلين، ولديهم تسليح متطور من أقل درجات التسليح الشخصي إلى قذائف الهاون، بجانب السلاح الشهير للتيارات الجهادية، وهي المركبات الانتحارية المفخخة بالآلاف الأطنان من المواد شديدة الانفجار، ما يستهلك جيوش هذه البلدان سيئة التجهيز بالأساس، وبالتالي تؤثر هزيمتهم بشكل متكررعلى استعدادهم لمواصلة القتال.
رد الجيوش .. توسيع نطاق الحرب
من الصعب توقع رد الفعل العسكري أو ضبطه في هذه المناطق، ومحاولة تحجيم حالة السخط بين الجنود والضباط مع استمرار الهجمات، خاصة أن قوة بعضها أدت إلى هروب قوات الشرطة من مواقعها مؤقتًا مثلما حدث في بوركينافاسو بسبب خطورتها.
وتسعى الحكومات وأجهزتها العسكرية في البلدان الساحلية المتضررة إلى منع توسع التهديد الإسلامي المتطرف، وأطلقت كوت ديفوار على سبيل المثال سلسلة من الدوريات وزادت من وجود قواتها على طول الحدود الشمالية مع بوركينا فاسو.
التواجد العسكري وتتبع أثر هذه التيارات يخلف مواجهات بالطبع بين الطرفين، ولكن يبدو أن الأمن توسع بشدة في عملياته، لذلك طالته اتهامات المؤسسات الحقوقية الدولية التي تراقب الأوضاع في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بارتكاب حصيلة متزايدة من عمليات القتل خارج نطاق القضاء، وخاصة في المعارك التي تدور ضد الجماعات الجهادية.
كانت بعثة الأمم المتحدة على رأس الذين اتهموا مالي تحديدًا بإعدام ما يزيد على 100 شخص، فضلا اختطاف أكثر من 30 شخص آخر وفق ما يعرف بـ«الاختفاء القسري» بجانب التوسع في تعذيب عشرات الأشخاص بما يفوق ما حدث العام الماضي.
نفذ الجيش المالي عمليات انتقام من جماعة الجهاد المتطرفة، الذي قتلت 20 جنديا وضابطا من رجال الدرك في منطقة سوكولو بجانب مناطق آخرى بالقرب من الحدود مع بوركينا فاسو.
الجيش النيجيري هو الآخر اتُهم بقتل 102 شخص ودفن جثثهم في مقبرة جماعية بمنطقة بين إينيتس وأيورو في مقاطعة تيلابيري الشمالية، وهي اتهامات نفاها ووزير الدفاع يوسفو كاتامبي، الذي أكد وقوع صراع مسلح بالقرب من الحدود المالية، ولكنه اعتبر أن ما حدث كان ردًا عادلا على هجوم جهادي انتحاري على قوات الجيش.
ولا تتوقف الاتهامات على الأمم المتحدة، بل أعادت ترديدها أيضا منظمة العفو الدولية، وهي أحد المؤسسات التي تعمل على رصدت الانتهاكات العسكرية، وانتجت بعض التقارير المتتالية التي تؤكد أن الجنود الذين يجتاحون القرى في مالي والنيجر وبوركينا فاسو قتلوا بصورة غير قانونية، واخفوا البعض قسراً، وتشير إلى أن بعض حالات الإعدام التي أعلن عنها فيما بعد كانت خارج نطاق القضاء.
سميرة داود، مديرة المنظمة في غرب ووسط أفريقيا، توثق ما يحدث، وتؤكد إن هناك تصاعد للاعتقالات التعسفية من قبل قوات الأمن بحق عشرات الأشخاص في وقت واحد، وتلفت إلى أن الأزمة تكمن في أن النطاق الحقيقي للانتهاكات التي ترتكبها الجيوش غير معروف.
حتى الآن تعهدات حكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر بمعالجة هذه الانتهاكات كانت جوفاء، تضيف «سميرة» وتكمل: يجب على السلطات في هذه البلدان إجراء تحقيق عاجل ودقيق في هذه الحوادث، والتي يمكن أن يصل كثير منها إلى جرائم حرب، وضمان حماية عامة السكان أثناء العمليات العسكرية ضد الجماعات المسلحة.
غضب «ميري» من التقارير الحقوقية
الجيوش العاملة في المنطقة، تجد هي الآخرى مرارة كبيرة من التقارير التي تطالبها بالإنسانية مع وحوش بشرية كاسرة لاتعرف إلا القتل والتدمير، وتتهم الجيوش المختلفة منظمات حقوق الإنسان بالتغافل عن حقيقة المخاطر التي يواجهونها، ودون أن يكون لها دور في وقف الهجمات الجهادية في منطقة الساحل، والتي قتلت العام الماضي وحده أكثر من 4000 شخص بين مدني وعسكري، وتتساءل: أين كانت المؤسسات الحقوقية؟
المطلع على أزمة المنطقة سيجد أن التيارت المتطرفة تشيع حالة من العنف بجميع أشكاله بما فيه العنف الطائفي، في مناطق متقاربة جغرافيا والكثير من سكانها إما جهاديين أو متعاطفين معهم، وهو ما يؤدي إلى صراع دائم مع الدول الثلاث، وينتج عن ذلك انتهاكات كارثية تسأل عنها التيارات التكفيرية في المقام الأول، بعدما تسببت في تحويل المنطقة إلى حجيم متتال على رؤس الجميع.
ولايخفي على أحد أن الأجهزة الأمنية في دول العالم الثالث، والتي تنخرط في مثل هذا الصراع، ويسقط منهم ضحايا في المواجهة، يتبعون أحيانا سياسة العقاب الجماعي في الهجمات الانتقامية ضد المجتمعات التي تأوي الإرهابيين وتتستر عليهم، ولاتساعدهم في حل الأزمة جذريا، خاصة ان التيارات تتخفى وسط المدنيين وتطلق عملياتها الإجرامية من ارتكازات مدنية.
وتحاول دول منطقة الساحل رسميًا الالتزام بالمعايير الإقليمية والدولية التي تعزز الحوكمة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، ولكن ضعف مؤسساتها وشيوع الفساد على نطاق واسع وسط تراكمات الأزمات السياسية والأمنية يعقد القضية.
ولاتقف تحديات حقوق الإنسان على الصراع مع المتطرفين والتكفيريين وحدهم، ولكن على التوسع في الحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتقليل من التحديات المفروضة على حرية التعبير والتجمع والتمييز ضد المرأة، والقضاء على عمالة الأطفال، ومنع الاتجار بالأشخاص، وكذلك التمييز ضد بعض الجماعات العرقية.
ما يزيد من جراح هذه البلدان، وربما يقضى على أي أمل للإصلاح، استمرار نمو التيارات الدينية المتطرفة والتكفيرية، التي نشأت من أجل عمل وحدة مزعومة للحركة الإسلامية في غرب أفريقيا، وتستخدم فتاوي شرعية من رموزهم لاستخدام الدين كغطاء لتهريب المخدرات إلى أوروبا، والاتجار في السلاح بل والاتجار بالبشر والبلطجة على المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا عبر الصحراء، وأخذهم رهائن لابتزاز ذويهم في دفع الفديات.
ما يقوله الجيش والمؤسسات الحقوقية في المقابل يؤكد حقيقة واحدة، أن حياة المدنيين في خطر شديد بهذه المناطق، وحكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ربما مطالبة بالتعاون في إنتاج سياسات واضحة لتحجيم الإرهاب أكثر من أي وقت مضى، ولكن دون ارتكاب المزيد من الانتهاكات ضد السكان العزل، وبذل المزيد من الجهد في أن تكون العمليات العسكرية متوافقة مع حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.