عبد الحكيم الرويضي يكتب “القاعدة” في الساحل والصحراء.. التدخل الأجنبي لن يكسر شوكة الإرهاب
ما زال طموح الجهاديين الجامح لإنشاء دولة الخلافة، يشكل تهديدًا في منطقة الساحل والصحراء، وقد يشكل سقوط زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بدايةً لسيناريو إرهابي جديد، أكثر من اعتباره نصرًا كبيرًا يقطع دابر التنظيم الإرهابي ويدعو إلى التفاؤل باستتباب الأمن في المنطقة.
في 5 من يونيو 2020، قتل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الجزائري عبد المالك دروكدال في شمال مالي قرب الحدود مع الجزائر من طائرات فرنسية مسيرة عقبها إنزال لقوات فرنسية محملة بمروحية، وساعدت معلومات استخبارية قدمتها الولايات المتحدة في ترصد هذا الزعيم التاريخي للحركة الجهادية في المغرب العربي، الذي سيؤكد التنظيم مقتله لاحقًا في تسجيل صوتي، ولم تتردد وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي في وصف هذه العملية بـ”الإنجاز”، لكنها استدركت “إلا أنه من السابق لأوانه إعلان النصر في منطقة الساحل”.
آخر مسمار في نعش الإرهاب
نهاية دروكبال بعد مطاردة استمرت 20 عامًا، تفتح المجال أمام احتمالية تفكك التحالفات التي نسجها التنظيم مع بعض الحركات المتشددة الأخرى، خاصة أن الرجل الخمسيني كان يقود كل مجموعات القاعدة في شمال إفريقيا وقطاع الساحل، بما في ذلك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (إحدى الجماعات الإرهابية الرئيسية الناشطة في الساحل)، ومن المرجح أن تتجه كل جماعة من تلك الحركات إلى الاستقلال بذاتها عن بقية الكيان الإرهابي.
كان لدى عبد القادر دروكدال خبرة واسعة في صناعة المتفجرات
قبل طرق آخر مسمار في نعش الإرهاب، لا تزال هناك فترة تهدد بخطر هذا التنظيم المتشدد، فلا يمكن إعلان نهايته بمجرد قتل القائد، من واقع أن دمه كان مهدورًا واستدراجه وتصفيته في أي لحظة كان أمر وارد جدًا، لهذا يكون التفكير في من سيخلفه بمثابة الخطة البديلة بالنسبة لهذه الجماعة الإرهابية.
أسامة بن لادن (1957- 2011)
فقد لاحظنا أنه بعد مقتل أسامة بن لادن لم ينته تنظيم القاعدة عن بكرة أبيه، بل تراجع في معقله، لكنه استمر في توسيع إمبراطورية الإرهاب بالخارج، سواء تعلق الأمر ببروز جماعات أعلنت ولاءها لهذا التنظيم العالمي المسلح أو تنظيمات أخرى تتقاسم نفس فكرة “إقامة الخلافة على مبدأ الوحدة الدينية”.
“أرض الجيل الثالث للإرهاب”
تنبؤات المراقبين الأمنيين بشأن تداعيات ضعف تنظيم “القاعدة” في باكستان وأفغانستان في السنوات الأخيرة، كانت تشير إلى انتقال شبكات الإرهاب إلى مناطق أخرى في العالم، وحذر المراقبون من تصاعد النشاط الإرهابي في القارة السمراء، بحيث سوف تصبح مستقبلًا “أرض الجيل الثالث لتنظيم القاعدة” أو “أفغانستان جديدة”، وبالفعل برزت فصائل القاعدة في دول إفريقيا خاصة الصومال ومالي ونيجيريا، فضلًا عن شمال إفريقيا.
سقطت الجزائر في مستنقع الدم خلال سنوات التسعينيات
من رحم أكثر الجماعات الإسلامية المسلحة ضراوة في الجزائر، ولد تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، إذ تعود جذوره إلى فترة الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد في فترة التسعينيات التي يطلق عليها الجزائريون “العشرية السوداء” أو “العشرية الدموية” وهي الفترة التي شهدت تصاعد الأعمال المسلحة العنيفة، ورفعت خلالها جماعات إسلامية مسلحة عصا التمرد ضد الدولة.
“حماة” المنطقة من الأطماع
عام 2006 أعلنت “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” بالجزائر انضواءها تحت لواء تنظيم القاعدة الذي كان يقوده أسامة بن لادن، وفي العام الموالي تحول اسم الجماعة إلى اسمها الرسمي “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، ويسعى الجهاديون المنضوون تحت لواء التنظيم إلى “تحرير المغرب الاسلامي من الوجود الغربي، الفرنسي والأمريكي على وجه الخصوص” كما ينصبون أنفسهم “حماة” المنطقة من الأطماع الخارجية، ويحلمون بـ”إقامة دولة كبرى تحكم بالشريعة الإسلامية”.
تتبلور المكانة الإستراتيجية لمنطقة الساحل والصحراء فيما تمتلك من موارد ومقومات طبيعية من احتياطات نفطية هائلة بجانب توافر معدلات كبيرة من المواد الخام، فضلًا عن مساحتها الشاسعة المترامية الأطراف بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي.
هكذا يمتد الساحل على الشريط الطويل من الأراضي القاحلة على طول الحافة الجنوبية من الصحراء الكبرى، ويغطي جزئيًا أو كليًا 12 بلدًا إفريقيًا، فيما تمر منطقة الصحراء عبر 11 دولة، محتلة الجزء الأكبر من شمال إفريقيا، إذ تعتبر أكبر الصحاري الحارة في العالم.
تجمع دول الساحل والصحراء
كل هذا يجعل المنطقة محل اهتمام الدول العظمى كفرنسا والولايات والمتحدة الأمريكية نظرًا لارتباط مصالحهم الإستراتيجية بالساحل والصحراء، ما ترتب عنه وجود هذه الدول عسكريًا في ظل هشاشة الأوضاع الأمنية إلى جانب تنامي الأنشطة العنيفة لتنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي” إلى جانب جماعة “بوكو حرام” وحركة “أنصار الدين” وحركة “الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا” وحركة “الشباب المجاهدين في الصومال”.
احتفاء إعلامي ورسالة مبطنة
محاولة الاستثمار الفرنسي في مقتل الإرهابي الخطير عبد المالك دروكدال يكشف استماتة فرنسا في إبقاء قواتها بالمنطقة، لهذا احتفت إعلاميًا بهذا الإنجاز لتوجه رسالة مبطنة مفادها أن لديها ما تقدمه في الحرب على الإرهاب، خاصة أن عملية صيد دروكدال جاءت ساعات قليلة بعد مظاهرة حاشدة في العاصمة المالية باماكو، علت فيها أصوات المحتجين مطالبة برحيل القوات الفرنسية (عملية برخان) من البلاد والمنطقة ككل.
في 13 من يناير/كانون الثاني 2020 بمدينة بو الفرنسية، اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رؤساء الدول الأعضاء في المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل (مالي، النيجر، التشاد، بوركينا فاسو، موريتانيا) من أجل بحث الوضع في المنطقة، وانتهت قمة “بو” باستمرار الانخراط الفرنسي في مكافحة الإرهاب، حيث اتفق الأطراف على الجهود العسكرية في المنطقة الحدودية الثلاثية بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، بقيادة مشتركة بين عملية برخان والقوة المشتركة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل.
والوضح أن “قمة بو” انعقدت إثر زيادة الانتقادات الشديدة للقوات العسكرية الفرنسية التي اتهمت بالتقاعس وقلة الفعالية وعدم التنسيق الاستخباراتي، ففرنسا نفسها مجبرة على مواجهة صريحة مع نظيراتها في الساحل الإفريقي، التي طالبت شعوبها بطرد قوات عملية برخان، بعدما تنامت أعمال العنف العرقي وتصاعدت الهجمات الإرهابية ضد جيوش دول الساحل، كان أبرزها هجوم حدث في نوفمبر 2019 بقرية مالية قرب الحدود مع النيجر، أسفر عن مقتل 49 عنصرًا من الجيش المالي، في حين أظهرت القوات الفرنسية أداءً سلبيًا، إذ لم تقدم المعلومات والدعم للجنود الذين كانوا يستغيثون تحت وابل الرصاص.
من سيقود المشهد الإرهابي؟
أحدث مقتل دروكدال جلبة وسط الجماعات المتشددة، عن الشخصية المتطرفة التي سوف تتصدر المشهد الإرهابي في الساحل والصحراء، وتشير التوقعات إلى ثلاث شخصيات أولها إياد أغ غالي الذي يقود جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، كان قد قاد تمردًا للطوارق في التسعينيات، ثم توارى عن الأنظار وعاد سنة 2012 معلنًا تأسيس جماعة أنصار الدين التي عملت مع الحركة الوطنية لتحرير “أزواد” من أجل السيطرة على أجزاء واسعة من شمالي مالي، التي تم تحريرها من أيدي الحركات المسلحة بتدخل فرنسي عام 2013.
شخصية أخرى صارت تتمتع بنفوذ متزايد هي عهدي محمد كوفا الذي قرر إنهاء خضوعه لجماعة أغ غالي وأسس كتيبة “ماسينا” سنة 2015، حيث استفاد كوفا من الخلافات القديمة بين الرعاة والمزارعين، مكنته من إيجاد هامش متسع لنفسه خلال السنوات الأخيرة.
ثم أبو الوليد الصحراوي الذي كان أحد قادة حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا التي كانت من بين من سيطروا على شمالي مالي سنتي 2012 و2013، ولاحقًا تزعم جماعة مرتبطة بتنظيم داعش الإرهابي، تتركز في منطقة المثلث الحدودي بين كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وشنت هجمات على مراكز عسكرية نهاية العام الماضي وبداية السنة الحاليّة.
التدخل الأجنبي يقوي شوكة الإرهاب
في الوقت الذي تواصل القوى الدولية والإقليمية المعنية بالحرب ضد الإرهاب تشديد إجراءاتها الأمنية ورفع مستوى التنسيق الأمني فيما بينها لمواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، لا تزال الجماعات المتشددة تحتفظ بقدرة التجنيد وتتغذى على الصراعات العرقية التي لا تزال قائمة، كما يعمل الإرهابيون جنبًا إلى جنب مع شبكات الجريمة المنظمة لا سيما في مجالات التزييف وتهريب الأسلحة والجرائم المالية عبر الفضاء الرقمي.
أدى اختلال الحكامة وفشل أنظمة الحكم في المنطقة إلى تفاقم الصراعات والفوضى وانتشار الجريمة المنظمة بمختلف أنواعها واستشراء الفساد وزيادة الأوضاع الاجتماعية خاصة بعد توالي سنوات الجفاف والتدهور البيئي، وعجزت المنطقة عن بناء دول ديمقراطية حديثة وإقرار حكامة سياسية واقتصادية في خدمة الوطن والمواطن.
حالة العبث هذه تمنح مساحة للجماعات الإرهابية لبعث نشاطها من جديد، وقد يكون التدخل الأجنبي العسكري عاملًا معارضًا أكثر منه مساعدًا على استتابة الأمن في المنطقة، لعله يسهم في تقوية شوكة الإرهاب ويمنح شرعية للجماعات الإرهابية في استدعاء المقاتلين وتجنيد المواطنين تحت ذريعة تحرير المنطقة من قبضة الأجانب.