جَدَلُ العَلاقة بيْن جَنوب وشَمال السّودان: في حياةِ مُثقّفٍ ثَوْريٍّ (الجزء الأول)
بقلم ياسر عرمان
الموتُ؛ يطرح أسئلة الوجود، وجمال وضآلة الحياة، وكدْح الإنسان ولقاء الأبدية، والحياة برقٌ لامع أو خافت، ويطرح الموتُ؛ سؤالُ البدايات والنّهايات والخلود والعدم؛ وهو أكثر ظواهر الحياة وحقائقها التي تستوقفني بعنفٍ، وتقذف في وجهي بأسئلةٍ أكثر مما تعطيني من إجابات، والنّفس الّلوامة والسّاعية نحو الخلود؛ جذرها في الموت الذي لم يجد له الانسان علاجاً ومن سُوحِه مفرّاً.
هذا المكتوب مكرّس لإلقاء شعاع ٍمن الضوء من نافذة الحياة العامرة؛ التي عاشها مثقف ثوري سوداني، متميز- في خضم العلاقة المضطربة بين شطري السّودان؛ ومن خلال ما أُّتيح لي من معرفة وأخوّة وصداقة ورفقة جمعتني بإدوارد لينو أبيي، والنظرة في أضابير ودهاليز الروايات والحكاوي، في رحلتنا المشتركة ومعرفتي به، وجدل التأثير المتبادل بين إدوارد لينو والفضاء العام والتفاعل بين الفرد والجماعة وبين الفرد والجغرافيا السياسية والاجتماعية والثقافية، وجدل العلاقة بين جنوب وشمال السّودان، وتأثيره في حياة مثقّف ثوري.
من جنوب السّودان أتى إدوارد لينو، كان إنساناً ذو توجهات متّسعة ومنفتحة على الواقع السّوداني بمجمله، وفي تناولي هذا؛ سأحاول انْ اْستطعت إستعادة إدوارد الإنسان والرّفيق والأخ والصّديق وأرسم لوحة خبرتها لشخصه.
عند مولده؛ انتمي إدوارد لينو لمنطقة أبيي بجغرافيتها الحاكمة، والمنفتحة على الصّراع والاختلاف والائتلاف وإحتكاكها العميق بثنائيات السّودان الثقافية والاجتماعية وأسئلة التّنوع والوحدة والانفصال، مما أعطى إدوارد قلْبين عند مولده، قلب على الجنوب وآخر على الشمال، وكان بوابة بضلفتين تنفتحان مثل قلبه على الشمال والجنوب الجغرافي والسياسي، وكان باب إدوارد لينو فاتحاً كذلك على السودان المحتشد بالجماهير من مهمشي الريف وضحايا العنصرية وفقراء المدن وحركة الطلاب والنساء والمجتمع.
في إعتقادي؛ أن أهم مدخل لمعرفة شخصية إدوارد لينو، يظلّ ثُلاثي الابعاد مكونٌ من المكان والزمان والوعي، وقد كان التأثير الواسع للجغرافيا والمكان والزمان المحتشد بالأحداث الصغيرة والكبيرة؛ التي مرّ فوق سحابها وأرضها المشبعة بعبق الطين والوحل والجراحات من عاديات الزمن ، هي التي شكلت في خاتمة المطاف إدوارد لينو ووعيه وشخصيته.
إن التّفاعل بين الزمان والمكان والوعي والاختيارات التي عكف عليها إدوارد لينو والضرورة والمصادفة والمفارقات ؛ هي من شكّلت الحِمض النّووي لشخصيته، أتى ذلك من كل هذه الصور المعقّدة والمتشابكة بأفراحها وأحزانها وانتصاراتها وهزائمها وقضايا الحق والارض والملكية ولمن تعود الارض؟ والى اين يعود الانتماء؟ والحفاظ على الوجود والثقافة، كل ذلك كان مشتركات عميقة في حياته . وظلّ إدوارد لينو في معظم لحظات حياته الكبرى عند تقاطعات المشهد السياسي السوداني مثلما كان عند تقاطعات المشهد الجغرافي ، والمدخل لمعرفة شخصيته ؛ يمرُّ بالزمان والمكان والوعي الذي شكّل وطبع حياته برونقٍ مختلف عن الآخرين.
إشكالية واسئلة الجغرافيا والثقافة والهويّة والتداخل ونقاط الإلتقاء والإفتراق في عوالم إدوارد لينو وعيونه التي تنظر من خلال عدسة الجغرافيا والسياسة والهوية ، وتفاعله الذي لم ينقطع مع عالمه الذي واجهه بإختيارات واعية، لاتخلو من عواصف سياسية عاتية؛ بدءاً من مكان إنتمائه الابتدائي ” أبيي” التي تمثّل (سُرّة بلدين) بين إنتمائها الجغرافي والذي أجاب عليه بوضوحٍ إدوارد لينو بأنها تنتمي جغرافياً إلى جنوب السّودان، ولكنه كان يرى بُعْدها الإجتماعي والإقتصادي والسّياسي الذي يمتد شمالاً وجنوباً ، وقد تفاعل إدوارد مع هذه الأبعاد ، والتّفاعل هو طابعٌ عام لإدوارد كمثقّف ثوري ، غير منغلق ومنفتح على المشاريع الكبيرة وقد أنفق؛ وقتاً ثميناً من حياته في البحث عن مشروع وطني ديمقراطي، وتأثير المكان والجغرافيا عند إدوارد؛ غير ساكنٍ ولاخامدٍ جامدٍ بل؛ في حركة دائبة.
من شُرفة السّتينيات أطلّ إدوارد لينو على المشْهد الوطني، وطبعت السّتينيات نظرته مستقبلاً، فقد هبّت عليه رياح ثورة إكتوبر 1964، مثلما هبّت على غيره لاحقاً رياح الجنّة ” هُبّي هُبّي رياح الجنّة” لقد بلغ إدوارد سن النّضج السّياسي في الستينيات، وحينما تم قبوله في جامعة الخرطوم في العام 1967، كان يساريُّ الهوى وذكر لي صديقه الذي شاركه الهوى والهُويّة ” مكير بنجامين” والذي أنتمى الى نفس الجامعة في وقت لاحقٍ ومتقارب، أن عدداً من الطلاب الجنوبيين ومن ضمنهم إدوارد لينو والراحليْن بيتر نيوت كوك وكارلو كير، والأخيرُ ينحدر من نفس منطقة إدوارد وشريكه في الإنتماء لليسار، هذه المجموعة قد وجدت الطّلاب الجنوبيين منتظمين في ” جمعية رفاهية الطّلاب الجنوبيين” وهي جماعة؛ تُعنى بالحفاظ على حقوق ومصالح الطّلاب الجنوبيين في الجامعة، بمعزلٍ وعُزلة عن التفاعل مع الطّلاب الشّماليين، الذي يشكلون أغلبية الطّلاب، وكانت ترفض المشاركة في إنتخابات الاتحاد والبرامج المشتركة السياسية والثقافية والإجتماعية مع الجماعات الاخرى، وقد عمل إدوارد مع زملائه على فك عُزلة الطّلاب الجنوبيين وتبنّى خط سياسي أكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع الطّلاب الآخرين وقاموا بتغيير اسم التّنظيم الى ” الجّبهة الوطنية الإفريقية” وقد طرح إدوارد وكارلو كير تسميتها بالجبهة الاشتراكية الافريقية ولكن إقتراحهم لم يُحظى بالاجماع وسمّيت ” بالجبهة الوطنية الافريقية” وهو الاسم الذي أستمر لسنوات طويلة بعدها.
ملأت ثورة أكتوبر 1964 أشرعة إدوارد لينو وآخرين من الطّلاب الجنوبيين، الذين لم ينظروا الى الطّلاب الشماليين ككتلة صمّاء ونظروا الى عمق التّقسيمات الطّبقية والسياسية والثقافية، وكمُثقّف متفاعلٍ وثوري أختار إدوارد مبكراً التّفاعل والصّراع بدلاً من العُزلة، وهي سِمة لازمته حتى فارق الحياة – وترك بصماتٍ واضحة في هذا الطريق.
لإدوارد لينو سجلٌ طويل في بناء المنظّمات السّياسية؛ التي تطرح طيفٌ واسعٌ من الأجندة الطّبقية والإثنية والثّقافية وقضايا الهُويّة وامتلك إدوارد شبكة واسعة من العلاقات الإجتماعية والسياسية، وتنقل بخفة فراشة بين المجموعات التي تطرح قضايا الدّيمقراطية الإثنية والأخرى التي تطرح قضايا العدالة الاجتماعية الطّبقية ووجد القبول في الجماعتين مع إختلاف منظور كل جماعة عن الاخرى.
الآن؛ ما عاد إدوارد حضوراً بفيزيائه البشري، الذي أضحى جزءاً من الماضي ولكن الماضي هو فانوس المستقبل، فلقد أودع إدوارد مواقفه ووصاياه ورؤيته وسيرته الذّاتية في بنك الحاضر والمستقبل، وبعضها كتابةً ومنها ديوان ” نقرات على شفاه مرتجفة، الإبادة الجماعية باسم الله، عاشت القرود” ومن هنا سيكون اسهامه في المستقبل وما ندو؟نه هنا هو جزء لا يتجزأ من هذا الحوار المستقبلي الذي اجترحه إدوارد.
نحن الذين نمتُ له بصلة سنبذل جُهدنا؛ لنوقد شمعداناً لا ينطفئ احتفاءاً بحياته وإسهاماته وذكرى الموتى والراحلين الغائبين مثل حضورهم، استمراراً لحيواتهم وهي في حوار متصل مع الاحياء لتُشكل عالمنا بعد غيابهم.
إدوارد الانسان، حمل طحينه الى طاحونةٍ لاتدور وان دارت توقفت، ومع ذلك؛ لم يغشه النّعاس ولم يكن إنساناً متفرجاً على صنع التّاريخ ، فهو لايعرف الفُرجة في أوقات صناعة التّاريخ بل قد ساهم في صناعة جزءٍ منه.
خرج إدوارد من المصير المحتوم إلى المصير الذي اراده، وفي كل الاحوال عندما رحل؛ لم يُحز حتى ماصنعه بنفسه على رضاه . سيدوّن على قبر إدوارد لينو؛ بأنه مثقّفٌ ثوريّ عاش في أزمنة شديدة التّقاطع لم يسلم من جروحها وخدوشها وحمل بعض ندوبها إلى الأبديّة وصمد حتّى النّهايات.
حينما رحل إدوارد لينو؛ أصبحت بلادنا تكتب بحبر التّواصل الاجتماعي ورغم ضوء الثّورة والنّهار فإن الظلام لايزال سيّد الموقف. وإدوارد رغم الرّحيل قد نجى من الموت بأعجوبة وهزمه بأن، ترك سيرة عصية على الموت وشكلاً مختلفاً من الوعي وفناء الذات ومحوها، ونزيفُ واستنزاف الحياة، وقد كان من حقّ أدوارد لينو أن يرفع قضية ضد حكومة السّودان أقلّها في سنوات طويلة أمضاها في السّجون؛ لأنه قد قال ” ان من حقّ النّاس ان يتحدثوا بلغاتهم الاصلية” وأن الشعوب قد خلقت لتتعارف.
تظلُّ سِمات المثقّف الثّوري والكوني؛ هي التّفاعل وركل الإنعزال، وإدوارد منذُ البدايات رفض إرتداء الأحذية الضّيقة، رغم أنه قد تحصل في كثير من الاحيان على ما ضاق من تلك الاحذية.
لإدوارد لينو؛ نقوشٌ وآثار في جمهوريتي السّودان شمالاً وجنوباً، وفي وقتٍ من الأوقات، حلم إدوارد ببلادٍ موحّدة وبمشروع وطني ديمقراطي يضم الجميع، ولكن الحاكمين في الخرطوم كانوا غير معنيين بهذه القضيّة وحينما رحل إدوارد كان ” خرمان” لبلاد حلم بها ولم يُشاهدها على أرض الواقع.
وفي ذلك ليس وحده، فالسودان كان من الممكن أن يكون مشروعاً عظيماً ووارفاً يحتفي بالتنوع وبالثقافة وبالمواطنة بلا تمييز وبمساواة النّوع وحقّ الآخرين في العيش وكونهم آخرين، ولكن ذلك كان ظلال وسراب من حلم الظمئآن.
حينما أتحدث هنا عن إدوارد لينو ، نحاول أجراء جردٍ للحساب ، نجتهد في أن يكون جاداً وحقيقي ومتّسق مع حياته وما تمكن من إنجازه وما توصل له والظّروف التي أحاطت به والحواجز التي تجاوزها والاخرى التي صعب عليه عبورها، وهذا أمرٌ ليس باليسير وربما نحصد بعض ملامحه وهو مفتوح لمحاولات أجود من آخرين في البحث عن تقلّبات ومصاعب بلادنا ؛ التي كان لها أن تكون أفضل مماهي عليه، نبحث عن كل ذلك في حياة مثقّف ثوري ومُنتمي مثل إدوارد لينو.إن بلادنا تصحو على ضفّتيها وهي معلّقةٌ على مشاجب الأمل.
في 1986 كُنت ذاهباً لتناول إفطار رمضان مع بعض أقربائي الذين يسكنون في أركويت، وفي المحطة الوسطى؛ شاهدت جمعاً من الجنوبيين بكامل أناقتهم ولم تخطئ عيني صديقنا وضابط القوات المسلّحة “مشور طون أروك” الذي كان يجلس مع مجموعة من زملائه الضباط الجنوبيين في القوات المسلحة والشّرطة وتبادلنا التّحايا وقد التقينا بعد فترة غياب وسألته : لقد ذهب الجنوبيين الى الغابة فلماذا لم تذهب فهل أعجبتك القوات المسلّحة؟ فردّ بذكاءٍ ودهاء ” إن الغابة هذه المرة ليست للجنوبيين فهي للجميع” تحدثنا قليلاً واتفقنا على اللقاء ذلك المساء والتقينا وذهبنا معاً الى مكتب الدكتور بيتر نيوت في عمارة عوض الله وخاطبه مشور طون أروك بعد أن تبادلنا التحية بانه أتى معي ليقوم بتسهيل مهمتي للانضمام للحركة الشعبية ، كان مشور يعرفني جيداً وبيننا صلات سياسية تعود لنهاية السبعينيات قبل دخوله الى الكلية الحربية، وحينما التقيته كان قائداً لحامية حلايب على الحدود المصرية، وكان كما هو شجاعاً على الرغم من انتمائه للقوات المسلحة والمخاوف التي كانت من الممكن أن تحيط به وذكر لي قبل أن ندخل مكتب د. بيتر نيوت أن أخاه الاكبر أروك طون أروك عضو القيادة للعليا للحركة الشعبية وانه سينضم لاحقاً الى الحركة الشعبية وان بيتر نيوت هو مسؤل العمل السري الداخلي وانه كان يفكر في ضرورة الالتقاء بي وان أنضم للحركة الشعبية ورد عليه بيتر نيوت بلغة الدينكا ولكن مشور طون أروك رد باللغة العربية على الدكتور بيتر نيوت بأنه لايمكن أن يأتي اليه بشخص غير موثوق به، وتواصل الحوار بينه وبين بيتر نيوت الذي كان يتحدث بلغة الدينكا ومشور طون أروك الذي كان يرد باللغة العربية واردف قائلاً ” يادكتور بيتر الشخص الذي يجب ان يخاف هو أنا فانت استاذ قانون ومحامي وانا ضابط في الجيش” وفي قمة ذلك الحوار المثير ظهر إدوارد لينو وقام بتحية الجميع في مكتب د. بيتر نيوت ، كان أنيقاً بالبدلة وربطة العنق وشرح له د. بيتر نيوت ما جرى بلغة الدينكا، وكانت تلك هي المرة الاولى التي ارى فيها أدوارد في حياتي وقد أدركت لاحقاً، أن عند إدوارد لكل مأزق إجابة ، فقد أجاب في تلك اللحظة رداً على بيتر نيوت ومشور طون أروك .