24/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

هل تصل انشطارات العلمنة الجديدة في السعودية إلى جارتها اليمن؟

فهد سلطان – صحفي يمني

على مدى الثلاثة العقود الأخيرة كان ينظر لليمن على أنها بيئة تتلقى الأفكار المعلبة من الخارج، وهذا صحيح نسبيًا، ولكن ما نوع الفكر الذي وفد إليها من الخارج؟ 

يمكن القول، بأن العزلة التي فرضها الإمام يحيى حميد الدين أحد زعماء الدولة الزيدية {فرقة من فرق الإثني عشرية} (1904م – 1948) بقدر ما أبعدت الاستعمار الأجنبي عن مناطق شمال اليمن مؤقتًا وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) بقدر ما غيبت اليمن عن ركب الحضارة والتحديث لعقود، في حين أن الجانب العلمي على محدوديته وصلابته بقي يقاوم ويشق طريقه باستقلال كبير طيلة فترة حكم الإمامة حسب ما يذكر القاضي إسماعيل الأكوع (1920 – 2008م) في كتابه الشهير “هجر العلم ومعاقله”. 

بقيت المدرسة اليمنية العلمية رائدة في العالم الإسلامي لقرون، وتصدر أفكارها للخارج، وكتب ومؤلفات الشيخ الشوكاني (1759- 1834م) من المتأخرين شاهدة على ذلك، ومن سبقوه كالإمام محمد بن إبراهيم الوزير (775 – 840هـ) والإمام صالح بن مهدي المقبَلي (1637 – 1696م) من الذين وصل إشعاعهم العلمي والفكري إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي. 

مد التحديث الأول

تأثر الطلاب اليمنيين في ثلاثينات القرن الماضي من الذين وفدوا إلى عدد من الدول كمصر وباكستان والأردن وإندونيسيا وغيرها، وتأثروا بالتحديث التي شهدته البلدان العربية والإسلامية مقارنة باليمن التي بقيت معزولة عن العالم من حولها. وهذا التأثر “المحدود” ساهم بشكل كبير في رفد الحركة الوطنية على وجه رئيس، وزاد مستوى الوعي لديها بحتمية التغيير، وكان من آثار ذلك: محاولة تحديث المجتمع اليمني وإلحاقه بالعالم الذي كان قد سبقه بمسافات هائلة، والخروج قسراً من العزلة. 

ورغم فشل كل المحاولات السلمية مع النظام الرجعي الحاكم حينها لليمن ما دفع هؤلاء إلى الإيمان بأساليب الثورة ابتداء من انتفاضة 48 ثم انقلاب 55، وحتى توج ذلك النضال بثورة 62 التي تعد أول ثورة في الجزيرة العربية. 

مثلت كتب شيخ الأحرار محمد محمود الزبيري متنفس كبير للأحرار، فقد دون غالبية تلك التحركات للأحرار وتناول ظروفها والنجاح والفشل الذي اعترى كل واحدة منها، كما أن كتابات تلك الحقبة عكست الأفكار التي تأثروا بها وقدموا بها إلى داخل البلد. 

ومع قيام ثورة سبتمبر، تفتقت ملامح دولة جديدة عملت على محاولة فصل اليمن عن ماضي الإمامة البغيض، وهنا بقدر ما كان هناك فراغ بسبب انحسار الإمامة النسبي فقد كانت الأفكار القومية واليسارية والإسلامية تنموا وتتقاطع وتشتبك احيانًا. 

هذا التأثير للطلاب اليمنيين تحديدًا (الخارج نحو الداخل) لم يكن سلبيًا في تقييم كل المؤرخين الذين تناولوا تلك الحقبة من تاريخ اليمن، فقد ساهم “هؤلاء” في زيادة الوعي لدى المجتمع اليمني بطريقة أو بأخرى، غير أن الاختطاف الذي تعرضت له اليمن طويلاً من قبل الإمامة ولاحقًا من قبل السعودية تركز فيما بعد ظهور البترول في دول الخليج. 

وحتى ذلك التحديث البطيء الذي رافق ثورة سبتمبر 1962م، رغم ما تعرضت له في سنوات الحرب الأهلية الثمان – 1962، 1970م – بتأثير مباشر من السعودية طبعاً – فقد كان التحديث يشق طريقه ببطء ويتوسع مداه يومًا بعد أخر ولكنه لم يصل إلى مستوى التأثر التام أو الكامل الذي يعتمد على الخارج في كل شيء متجاهلاً الداخل. 

مد التأثر الثاني 

كانت فترة الثمانينات هي الإشعاع الثاني من (الخارج إلى الداخل)، تمثل بعودة عدد من الطلاب المبتعثين للدراسة في السعودية إلى اليمن أبان الحرب الباردة محملين بثقافة جديدة ناقلين أفكار معاكسة لما هو موجود في بلدهم، وغالبيتهم درسوا في محاضن دينية سلفية وهابية بحتة. لقد كان لهذه العودة الأثر الكبير في إرباك التحديث الفكري والثقافي القائم في اليمن بشكل عام. 

 وبما أنه لا يزال التجديد اليمني هش ولم يستقر فقد ضرب تماماً مع هذا التحول الجديد عبر الفكر الوافد. وهذا الاختطاف لم يستهدف المد الماركسي في الجنوب أو القومي في الشمال أو حركة العلمنة (الغزو الفكري) كما كان يرفع حينها وإنما أثر تأثيرًا مباشرًا على المدرسة العلمية اليمنية؛ كون القادم من الجوار جاء من داخل التيار رافعًا شعارات دينية اختطفت المشروع التحديثي والتنويري وذهبت به بعيدًا. بل وتماهت معه بعض القوى الإسلامية اليمنية قبل الوحدة وبعدها. 

مخاوف التحديث الجديد  

وبعيدًا عن حقيقة ما يقوم به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من تحديث للمجتمع السعودي في هذه الأثناء، وهل ما يقوم به تخريب وإرباك للمجتمع معتمدًا على طريقة علمانية متطرفة حسب تقييم البعض، أو تحديث لابد منه وقد تأخر كثير حسب آخرين، فإن الطريقة المستعملة حاليًا تعتمد على أسلوب الصدمة – وهي على كل حال – تترك فراغات كثيرة في بنيتها، وتطرح أسئلة ستصيبها في مقتل مستقبلًا، ابتداء من سؤال الهوية للمجتمع السعودي وأسئلة الشق السياسي والحقوقي التي لا نجاة منها بهذا الهروب الكاذب والمتجزأ للتحديث. 

المجتمع السعودي وخاصة “وضع المرأة” المتخلف لعقود بالنظر إلى وضعها في باقي الدول العربية والعالم يجعل هذا التحديث ذو أهمية من هذه الناحية. غير أن باقي التحديث الذي يستهدف قيم ومبادئ الناس التي ظلت في عرفهم الديني والمجتمع ثوابت لعقود طويلة يضع علامات استفهام كثيرة في هذه الأثناء. وهذا ليس مادة للنقاش في هذه السطور..  فما يهم في هذه العجالة هو أثر هذا التحديث أو “التخريب” مستقبلًا على الجارة الجنوبية للسعودية “الجمهورية اليمنية” وهل سيتكرر ذات التجربة السابقة؟ 

أثر التحديث العلماني الجديد على اليمن 

ينظر اليمنيون اليوم باهتمام كبير لما يجري في السعودية، وخاصة على الشق الاجتماعي منه، وهذا الاهتمام جزء كبير يشوبه خوف وحذر؛ نظرًا للتقارب الجغرافي والارتدادات التي قد يصل مداها خارج الحدود وتصل إليه بكل تأكيد. 

وهنا: قد لا يكون تتبع بعض الآراء داخل اليمن وخارجها كتعقيب أو تعليق على ما يجري في السعودية كافيًا للحكم على الموقف النهائي منه، إلا أن هذه التعليقات وغالبها في وسائل التواصل الاجتماعي ليمنيين – على قلتها – تمثل مؤشرات جيدة ومعرفة المزاج العام لدى اليمنيين لما يجري في دولتهم ذات الحدود الواسعة معهم. 

ومن المؤكد هنا، أن الحرب التي قادتها السعودية في اليمن تحت عنوان {عاصفة الحزم) التي انطلقت 26 مارس/ آذار 2015م، قد أعاقت طرح ما يجري في الجارة السعودية على مائدة النقاش الفكري والبحثي داخل المنتديات الثقافية ومراكز البحث والجامعات في الداخل اليمني؛ فغالبًا كانت المنتديات والصحف والمجلات تهتم ولو جزئيًا بما يجري بالقرب من اليمن وخاصة في السعودية. غير أن اليمنيين مشغولين كثيرًا بوضع البلاد والأزمات المتلاحقة حاليًا، وبات النقاش حول ما يجري بجوارهم ليس ترفًا ولكن لم تساعدهم اللحظة السياسية ذاتها في اخضاعه للفهم، كما أن النقاش كله يذهب إلى الشق السياسي خاصة وأن السعودية مشاركة في تحالف يقود حربًا فوضوية في اليمن منذ خمس سنوات. 

لقد بات الشارع اليمني اليوم أكثر وعيًا منذ قبل، وأن هذا التغريب يجري في السعودية بصورة فجة، ولن يكون آثاره سيئة وسلبية إلا على البلد الذي تنفذ فيه هذه الطريقة المتطرفة من العلمنة. فالشعب اليمني اليوم على وعي كامل، يجعله في حصانة لا بأس بها في مواجهة هذا التغريب أو التخريب، إذا ما حاول أن يشق طريقه ويتمدد خارج الحدود. 

كما أن الشارع اليمني لا يهتم غالبًا لما يجري في السعودية في هذه الأثناء، ولا يمكن أن ينتقل هذا الوضع الشاذ إلى اليمن مستقبلًا، لعدد من الاعتبارات: منها، أن اليمن صدرت الفن والفنانين إلى الخليج خلال سنوات سابقة، وكان هناك – في اليمن – انفتاح متوازن يمارس بوعي مجتمعي جيد لعقود. والاعتبار الثاني، أن اليمن سوف تستفيد ولو بطريقة غير مباشرة من خلال انحسار المد السلفي “الجامي منه على وجه التعيين” المدعوم من السعودية، وهذا ما سيجعل الوعي القادم يواصل شق طريقه بدون كوابح بأيد خارجية.”

الثالث وهو الأهم: أن الانحسار المد السلفي في اليمن وفشل النموذج العلماني معاً سيحد من عودة هذه الأفكار ابتداء من السلفية التي تتبنى الظاهرة، وكذا العلمانيون الذين سيكون عصياً عليهم تقبل هذا النموذج الجديد في السعودية للتصدير إلى داخل البلد.