23/11/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

دعم دولي متواصل وحصانة لحمدوك من انقلاب العسكريين

محمد مصطفى جامع

حظي مؤتمر شركاء السودان الذي استضافته ألمانيا الخميس 25 من يونيو/حزيران بمتابعة لافتة من جموع السودانيين الذين يعيشون فترة انتقالية متعثرة لم تختلف فيها الأوضاع الاقتصادية كثيرًا عن عهد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وإن أثمرت فترة ما بعد الثورة عن تقدم في ملفات أخرى مثل اقتراب رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية وتحسن مؤشر حرية الصحافة وحقوق الإنسان وغير ذلك.

المؤتمر يجسد توجهات السياسة الخارجية لحمدوك 

رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك يعطي الأولوية في مجال العلاقات الخارجية لدول الغرب، فقد كرّس جهده ووقته لمسألة إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب وترميم العلاقة مع المجتمع الدولي، ويعتمد رئيس الوزراء الانتقالي بصورة واضحة على أوروبا وأمريكا ثم الاتحاد الإفريقي، بينما تأتي العلاقة مع دول الخليج والجامعة العربية في مؤخرة اهتمامات السياسة الخارجية لحمدوك.

هذه الرؤية بدت واضحة في مؤتمر برلين، إذ لم يختر حمدوك السعودية أو الإمارات لرعاية الفعالية، رغم محاولاتهما للظهور بمظهر الداعم لحكومة ما بعد البشير، كما حرص رئيس الوزراء السوداني على دعوة نظيره الإثيوبي آبي أحمد لمخاطبة المؤتمر من دون دول الإقليم جميعًا، وخصّه بعبارات الشكر في نهاية اللقاء.

تعهدات بـ1.8 مليار دولار

أسفر مؤتمر شركاء السودان عن تعهد المانحون بتقديم 1.8 مليار دولار من أجل مساعدة الحكومة الانتقالية على الوصول إلى التحول الديمقراطي، وعلى غير المتوقع تعهدت دول ومنظمات غربية بالجزء الأكبر من المساعدات المنتظرة، فقد قدّم الاتحاد الأوروبي مبلغ 312 مليون يورو (350.13 مليون دولار) وقدمت الولايات المتحدة 356.2 مليون دولار وألمانيا 150 مليون يورو وفرنسا 100 مليون يورو.

وفيما يتعلق بالدول العربية التزمت الإمارات بتقديم 50 مليون دولار، والسعودية 10 ملايين فقط، فيما لم تقدم الكويت وقطر أي مساهمة رغم مشاركتهما في الحدث الذي نُظّم على الإنترنت.

اختلفت الآراء وكثرت التحليلات عقب انتهاء المؤتمر الذي اختارت حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أن يتم نقله على الهواء مباشرة، فريق أكّد نجاح مؤتمر برلين في تحقيق أهدافه، بينما يعتقد آخرون أنه فاشل وكل فريق لديه أدلة وحجج يستند إليها.. سنستعرضها جميعًا بالتفصيل.

التزام البنك الدولي وصندوق النقد بفتح قنوات تتيح للسودان الاستفادة من مواردهما هي خطوة متقدمة جدًا

اختلافات في تقييم نجاح المؤتمر 

الفريق الأول الذي يجزم بنجاح مؤتمر الشركاء يستدل أولًا بحجم المشاركة حيث وُجهت رقاع الدعوة إلى أكثر من 40 دولة ومنظمة عالمية حضرت جميعًا، لم يعتذر أحد ولم تتغيب جهة، بل حضرت قيادات من الصف الأول للمنظمات الدولية مثل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، بينما تفاوت حجم التمثيل للدول من وزراء الخارجية إلى مستوى أقل.

كذلك يرى مؤيدو حمدوك أن المشاركة الدولية الفاعلة في الحدث تشكل دعمًا سياسيًا كبيرًا للثورة وللانتقال الديمقراطي، حتى إن لم تكن المساهمات بقدر الطموح.

الفريق الآخر لا يعتقد بوجود أي نجاح للمؤتمر ويجادل أصحاب هذا الرأي ومعظمهم من أتباع النظام البائد بأن المبالغ التي تعهد بها المشاركون تعادل ربع احتياجات البلاد التي تبلغ نحو 8 مليارات دولار وفق تصريح سابق لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وزيادة على هذا ترى هذه المجموعة أن تجارب الدول مع مؤتمرات المانحين أيًا كان حجم المنح، فاشلة من حيث الالتزام بتنفيذ الوعود، كما قال الكاتب الصحفي ياسر محجوب الحسين.

هناك رأي ثالث تبناّه رئيس تحرير صحيفة التيار عثمان ميرغني الذي انتقد تعامل الحكومة السودانية مع المؤتمر، فقال في عموده: “الشراكة تعني الاستثمار (بزنس)، جاذبية المصلحة المشتركة، أما الصدقات والعمل الخيري فهو إحسان اليد العليا لليد السفلى! من رصيد الشفقة والأحزان”.

ولقي حديث ميرغني استنكارًا كبيرًا، فاتهمه البعض بالتغريد خارج السرب من باب “خالِف تُذكر” رغم أنه محسوب ضمن الصحفيين الداعمين للثورة منذ انطلاقتها، إلا أن نشطاء آخرين دافعوا عنه باعتباره يمارس حقه الأصيل في النقد البنّاء، وأن اختلاف الآراء يُثري النقاش ويولد المزيد من الأفكار حتى إن لم يوفق ميرغني في أسلوب الانتقاد.

تفسير دبلوماسي 

الدبلوماسي البارز رحمة الله محمد عثمان الذي شغل عدة حقائب دبلوماسية في عهد نظام البشير من بينها منصب وكيل وزارة الخارجية ومندوب السودان لدى الأمم المتحدة، علّق على المؤتمر والانتقادات التي وجهها عثمان ميرغني بالأخص، حيث اعتبر رحمة الله أن كثيرين لم ينتبهوا إلى اسم المؤتمر وهو “شركاء السودان”، موضحًا أن هذا الاسم له دلالة سياسية عميقة، وهو ليس مؤتمر تعهدات “pledging conference” الذي تختلف طبيعته عن مثل هذا المؤتمر الذي يتطلب تحضيرًا مختلفًا ويقدّم فيه السودان مشروعات محددة يطلب من المانحين تمويلها وتختار كل دولة القطاع الذي يناسبها.

ويلفت الدبلوماسي البارز في تدوينة له نُشرت على نطاقٍ واسعٍ، إلى أن “وزير الخارجية الفرنسي أشار إلى عقد مؤتمر آخر في بلاده ربما يكون مؤتمرًا للمانحين، مُذكّرًا بأن “التزام البنك الدولي وصندوق النقد بفتح قنوات تتيح للسودان الاستفادة من مواردهما هي خطوة متقدمة جدًا وتفتح الباب لمؤسسات مالية دولية أو إقليمية لتحذو حذوهما بل يعد قرارهما بمثابة الضوء الأخضر”.

لماذا جاءت مساهمات دول الخليج قليلة؟

وكالة بلومبيرغ الأمريكية تناولت قلة المساهمات الخليجية في مؤتمر برلين بتقرير جاء بعنوان: “السودان يحصل على المساعدات من الغرب، والابتسامات من العرب في مؤتمر المانحين” في إشارة إلى ضعف المساهمات العربية على خلاف المتوقع.

إذ اكتفت الإمارات بتقديم 50 مليون دولار فقط وساهمت السعودية بـ10 ملايين، بينما لم تتعهد كل من الكويت وقطر بأي مساهمة، ويمكن تفسير الإحجام الخليجي عن دعم الحكومة الانتقالية بمبالغ كبيرة في عدة أسباب نوردها في النقاط الآتية:

1/ السعودية والإمارات غير راضيتان عن مسار العلاقات الخارجية لحكومة حمدوك التي ذكرنا بالأعلى أنها تعطي الأولوية لدول الغرب ثم إفريقيا ثانيةً وبعد ذلك تأتي الدول العربية بما فيها دول الخليج.

2/ يُقال إن عضو المجلس السيادي قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حمديتي” لم يستجب لطلب الإمارات بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب الجنرال المتقاعد خليفة حفتر أو أن حميدتي أرسل قوة صغيرة العدد لم تصل إلى حجم القوات الذي طلبته أبو ظبي.

أهمية مؤتمر شركاء السودان لا تتمثل على الإطلاق في مقدار الدعم الذي تعهد به المانحون

3/ تعتقد الدولتان “السعودية والإمارات” أن الحزب الشيوعي السوداني هو الحزب الأكثر سيطرة على الحكومة المدنية، وقد عبّرتا عدة مرات عن عدم رضاهما عن المواقف والاتهامات المتكررة التي يصدرها الحزب ضدهما.

4/ بالنسبة لقطر ما زالت ترى أن حكومة حمدوك لم تُبد أي حُسن نوايا تجاهها، فرئيس الوزراء لم يلب حتى الآن دعوة قطرية لزيارة الدوحة قُدمت له منذ العام الماضي، ويقال إنه لم يرد أيضًا على عرض قطري يتضمن مساعدات للسودان بقيمة مليار دولار.

5/ الكويت كذلك تعتقد أن السودان دولة غير مستقرة في الوقت الحاليّ، وقد لا تمثل العلاقات مع الخرطوم أولوية لدى صانع القرار الكويتي.

ومع ذلك يمكن إيجاد حلول وسطى لملف علاقات السودان بدول الخليج رغم استمرار حالة الاستقطاب والصراع بين المحور السعودي الإماراتي من جانب وقطر من الجانب الآخر، فالسودان بحاجة إلى إبقاء العلاقات طبيعية “على الأقل” مع دول الخليج جميعًا، وهذه الأخيرة لديها مصالح متعاظمة في السودان رغم خلافاتها بين بعضها البعض، والواقع يحتم عليها التعامل مع الحكومة الانتقالية بوضعها الحاليّ، فلا الحزب الشيوعي يمكن أن يغادر الائتلاف الحاكم كما كانت تنتظر الإمارات، ولا يوجد أي أمل في عودة الإسلاميين إلى حُكم السودان في التاريخ القريب وربما البعيد أيضًا.

دعم سياسي قوي لحمدوك

إن أهمية مؤتمر شركاء السودان لا تتمثل على الإطلاق في مقدار الدعم الذي تعهد به المانحون، بل إن الأهمية تكمن في أن المؤتمر شكّل ما يمكن أن نسميه “حصانة سياسية دولية” قوية للحكومة الانتقالية في وقتٍ يتململ فيه المكون العسكري، وتشير كل الإرهاصات إلى اقتراب كل من البرهان وحمديتي من تنفيذ انقلاب شامل على الاتفاق الدستوري بعد أن نجح في إغراق البلاد بمستنقع من الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية.

المؤتمر كذلك أعاد للدبلوماسية السودانية مكانتها القديمة عندما كان السودان ملء سمع ونظر العالم في المؤتمرات الإقليمية والدولية، فبغض النظر عن النتائج وحجم المساعدات لم يكن أحد يتصور أن تشارك الأمم المتحدة ممثلة في شخص أمينها العام الذي تغزّل في ثورة السودان والشعب السوداني، ولا مديرة صندوق النقد الدولي التي تعهدت بمساعدة الحكومة الانتقالية في عملية الإصلاح الاقتصادي.

دول العالم أجمع تأثرت سلبًا بجائحة كورونا، وتعاني تدهورًا اقتصاديًا كبيرًا، بعد أن فقدت هذه الدول إيرادات مالية ضخمة، لذلك لم يكن من المأمول أن تتعهد في هذا التوقيت بأكثر مما تعهدت به، ومن الأفضل أن تجهز الحكومة خططها من الآن لبرامج دعم الأسرة المتعففة والعون الإنساني تمهيدًا لرفع الدعم بصورة كاملة.

استثمار الدعم الدولي للضغط على العسكريين

كذلك يجب على رئيس الوزراء حمدوك أن يستثمر الدعم السياسي الدولي للضغط على العسكر من أجل ولاية وزارة المالية على الشركات العملاقة التي يسيطر عليها العسكريون “الجيش والدعم السريع والأمن”، التي تُقدّر أصولها بمليارات الدولارات، كما يجب عليه الإسراع في إجراء التعديل الوزاري المرتقب وتعيين ولاة الولايات من المدنيين، فضلًا عن الشروع في تشكيل المجلس التشريعي بالتشاور مع لجان المقاومة والمبادرات المستقلة مثل مبادرة جامعة الخرطوم وعلى رئيس الوزراء ومستشاريه أن يبتعدوا عن المحاصصات السياسية والاجتماعية التي أتت بهذه الحكومة الضعيفة.

من الحكمة ألا نبالغ في تقييم نتائج مؤتمر “شركاء السودان” ونصوره على أنه طوق نجاة للبلاد من الأزمات الكبرى التي تحيط بها، ولن نبخسه كما يفعل البعض الذين يجزمون أنه مؤتمر فاشل تمامًا، فالأفضل أن نسلك الطريق الثالث إيمانًا بأن ما حدث يوم الخميس يمكن أن يكون نقطة انطلاق لاستثمار هذه الفعالية الدولية، والقفز بالسودان فوق مشاكله المزمنة نحو الشراكة والاستثمار، لكن هذا يتطلب الجدية والتخطيط الدقيق والرؤية السليمة من الحكومة السودانية خاصة أن هذه التطورات تأتي بالتزامن مع إرهاصات قُرب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

أخيرًا، انتزعت الإعلامية السودانية البريطانية الشهيرة زينب البدوي، المذيعة في شبكة “بي بي سي”، إعجاب جميع الذين تابعوها على مدى 3 ساعات وهي تدير مؤتمر أصدقاء السودان في برلين بالحضور الطاغي والحنكة والابتسامة الواثقة حيث أجمع الكل على أنها لعبت دورًا كبيرًا في نجاح المؤتمر.