المعلم الأول
فهد سلطان/ كاتب من اليمن
في عام 1986م كان معهد أويس اليماني قد أستقبل أول دفعة من الطلاب والطالبات لأبناء قريتي الصغيرة “المرزوح” الواقعة على سفح جبل صبر (3,070 متر عن سطح البحر). كنتُ حينها في السادسة من العمر، وفي ذلك التاريخ لم تكن القرية تحظى سوى بمعلم واحد فقط من أبنائها ولم يكن قد أكمل الشهادة الجامعية، فيما باقي المعلمين قدموا من عدد من الدول، أبرزها مصر والسودان وسوريا والعراق.
المعلمون السودانيون على وجه التحديد تركوا بصمات واضحة لدى اليمنيين في القرى والمناطق التي وفدوا إليها لمزاولة مهنة التعليم إبان فترة الثمانينات والتسعينات، وتركوا أثراً بالغًا لا يزال بعضه شاهداً حتى اليوم. فبين اليمن والسودان وجوه شبه كبيرة وتقارب عميق يرجع بعضهم ذلك إلى الهجرات اليمنية القديمة إلى السودان، إلى جانب أن التضاريس في البلدين متقاربة ما يجعل مزاج بعضهم أقرب لبعض إلى جانب اعتبارات أخرى سيطول حصرها.
في تلك القرية الصغيرة على سفح الجبل، كان أحد المعلمين يأخذ كل يوم زاوية محددة من الطابور الصباحي ويتكرر ذلك في مكتب الإدارة الصغير، بل وفي زاوية المجسد أيضًا. يرتدي العمامة البيضاء الكبيرة التي يلفها على رأسه ويلتزم الصمت في غالب أوقاته، وإذا تكلم أنصت لك الجميع. ذلك الشخص الطويل والنحيل ايضًا، كانت له مساهمة مباشرة في بناء المعهد العلمي وتحشيد الناس لهذا العمل الكبير، ومارس دور المصلح الاجتماعي والمربي خلال سنوات عمله، و يلتف حوله الشباب و سيحظى بإجماع القرية بالكامل.
موقف شجاع
ومما هو معروف في هذا الصدد لدى اليمنيين عامة، ومن له إطلاع ولو بسيط في التاريخ اليمني، بأن الإمامة (السلالة الهاشمية)(1) التي حكمت اليمن لقرابة ثمانية قرون، كانت في أخر عهدها الذي بدأ نهاية الحرب العالمية الأولى، أثناء تسلمها حكم اليمن الشمالي من الأتراك – واستمر حكمها حتى قيام ثورة سبتمبر الخالدة 1062 م، – ستخلف إرثًا كبيرًا من نظام الطبقية والعادات والتقاليد المتخلفة، والتي سيتخلص اليمنيون من بعضها بصعوبة، فيما سيبقى بعضه .
عالقاً حتى اليوم هذا التقسيم الطبقي البغيض للمجتمع، واحدة من سياسات الإمامة التي كرستها في المجتمع اليمني طيلة فترة حكمها، فكل طبقة تحتقر الطبقة الأخرى، وكل قبيلة تضرب القبيلة الأخرى. لقد كانت قريتي الصغيرة – كمثال – مقسمة إلى سبع فئات، فبعضها لا تقبل التزاوج فيما بينها بدافع المكانة، وكانت نار العصيبة حاضرة دائمًا، كما لا تخلو المجالس من المفاضلة عبر الأشعار والمدائح.
حمل الطلاب تلك الألقاب إلى داخل صفوف الدراسة، وكانت أسماؤهم توحي بذلك، ومادة للتفاخر والتنابز بالألقاب، وهنا يأتي دور المعلم الأول ليضع حدًا لهذا المرض ويقضي عليه، وستنتهي هذه الفكرة البالية. فقد أصدر مدير المعهد قراراً مفاجئًا، يقضي بعدم كتابة أي لقب في سجلات الأسماء الرسمية داخل المعهد، وهو القرار التي سيقسم القرية إلى قسمين الغالبية ضد القرار والقلة معه. وسيقف الأستاذ إبراهيم بصلابة في دعم القرار وسيواجه الشكاوى التي وصلت إلى مكتب التعليم بالمدينة، وستنتصر إدارة المعهد وراء هذا القرار الذي كان مشورة من الأستاذ إبراهيم الكاروري، ولن يمر بضع سنوات قلائل حتى تلاشت العصبية، و سيندمج سكان القرية مع بعضهم البعض، وستصبح الألقاب والتفاخر جزء من الماضي.
ليس ذلك فحسب، بل سيذهب الطلاب بعد ذلك نحو الجامعات وستصدر البطائق الشخصية بذات الاسم الذي تم اعتماده في السنوات الأولى من الدراسة، يحملون أسمائهم فقط بدون ألقاب القبيلة والأسرة، وهذا العمل سيستمر بعد ذلك ولا يزال معمول به حتى اليوم.
بين اليمن والسودان علاقات متميزة، وحب عميق ارتبط بين الشعبين منذ القدم، وقد أكدت على ذلك عدد من الوقائع قديماً وحديثاً. لقد بقيت العلاقات بين البلدين متميزة، لقد كانت السودان إلى جانب اليمن في مواقف كثيرة، وذلك حال اليمن أبان أزمات وكوارث كانت تحدث في السودان.
هامش..1- حكم السلالة الهاشمية اليمن خلال فترات متفرقة، باستثناء فترات قليلة جداً حكمت اليمن الشمالي كاملاً