01/05/2024

بوابة السـودان

صحيفة إلكترونية مستقلة

موقف غريب من التدخل التركي في ليبيا.. السودان أيضا

بقلم محمد شمس الدين / إعلامي وكاتب صحفي سوداني مقيم في القاهرة

أزمة التدخل التركي في ليبيا ماهي إلا مسرحية هزلية بطلاها الرئيسيان هما فايز السراج الذي يتزعم مجلسا رئاسيا منقوص الشرعية يضم عناصر من جماعة الاخوان، ورجب طيب أردوغان رئيس تركيا وزعيم حزب العدالة والتنمية الإخواني، والغرض من هذه المسرحية هو تمكين أردوغان من تحقيق أهداف غير محققة منذ عهد أجداده العثمانيين والانكشاريين الدمويين في شمال ليبيا، وبالمناسبة هو تاريخ لا يحمل سوى التنكيل بالليبيين وسرقة خيراتهم، ويذكر أن معظم ولاة العثمانيين الذين حكموا طرابلس الغرب ماتوا إما مقتولين أو منتحرين قبل أن يخرجوا من ليبيا بموجب اتفاقية لوزان التي وقعت في قصر “أوشي” في “لوزان” السويسرية في العام 1923 وهذا هدف يتبناه أردوغان شخصيا، ومن خلاله يطمح لتحقيق هدف آخر أهم – بالنسبة له – وهو أن يحقق بعد أعوام قليلة بموجب هذه الأزمة بعض المكاسب التفاوضية مع الأوروبيين -أطراف اتفاقية لوزان- فيما يخص اقتسام خيرات شرق المتوسط إضافة لإيجاد موطئ قدم في بوابة القارة الأفريقية الشمالية وساحلها المتخم بخيرات باطن الأرض من غاز ونفط، بما أن شرق المتوسط لاتزال منطقة عصية ولا ترحب بتركيا بموجب اتفاقية لوزان و قوانين اتفاقية البحار الدولية التي لم توقع عليها تركيا بالمناسبة، هذا إضافة إلى أن أردوغان الذي فشل في إقناع الأوروبيين بالانضمام إلى تكتلهم العتيد يرى منافسيه الروس والفرنسيين والمصريين يتقدمون في لعبة المصالح في أفريقيا وفي منطقة شرق المتوسط.. كمان أن علاقته بحلف الناتو مهتزة وفي قمة التوتر.

الأزمة الليبية تتجاذبها أطراف دولية متعددة، وكل منها لديه دوافعه فالعرب يهدفون لاستعادة الأمن على جزء من منطقتهم والتخلص من الجماعات الإرهابية ومساعدة الليبيين على إعادة إعمار بلادهم، وبعض القوى العظمى إضافة لتركيا تسعى لاقتسام حصة من خيرات ليبيا وبحرها من نفط وغاز وغير ذلك.. إلا أن تركيا أردوغان تعمل بشكل منفرد على إذكاء نار الحرب وإطالة أمد الأزمة حيث يدرك أردوغان أن تدخله بهذه الطريقة ستمكنه من التفاوض مع الأوروبيين حول ما يريده في شرق المتوسط.. وإن لزم الأمر أن يضحي بحياة جنود أتراك مغلوب على أمرهم.

وقد شكل تعامل عدد من الدول العربية مع موضوع التدخل التركي السافر في ليبيا – خلال اجتماع الجامعة العربية الطارئ منذ أيام – خيبة أمل لدى كثير من حكومات وشعوب باقي دول الجامعة فيما يتعلق بشجب أو إدانة مبدأ التدخل التركي السافر في دولة عضو في نفس التكتل، وهنا نتوقف تحديدا عند الموقف المخالف  للإجماع العربي الذي اتخذته الدول المغاربية بالإضافة إلى السودان وقطر، والذي يحاول إمساك العصا من المنتصف في علاقتها ببقية أشقائها وعلاقتها بليبيا.

لا بد من توضيح أبعاد هذا الموقف الغريب وتداعياته.. فقد اختارت هذه الدول التعامل بما يظهر شكليا أنه التزام بالمواثيق الدولية التي لا يحترمها أردوغان أساسا، وأقصد أن هذه الدول فضلت الالتزام بالشرعية الدولية المطعون فيها، حيث تعتبر حكومة السراج شرعية – وهي لم تعد شرعية بما أن الليبيين لم يمنحوها مباركتهم في برلمانهم المعترف به دوليا – فضلا عن انهيار اتفاقهم السياسي الذي وقعوه في الصخيرات وأنتج المجلس الرئاسي الذي انهار أيضا..

فيما يتصل بمسرحية تحصل أردوغان على شرعية للتدخل من برلمان بلاده فما ذلك إلا انتزاع موافقة الشعب التركي على صرف أموالهم وقتل أبنائهم في غزوة طرابلس، حتى يخلي طرفه شخصيا من أي مسائلة أو إدانة لاحقة، وقد واجه معارضة كبيرة داخل البرلمان من عدة أحزاب في مقدمتها أكبر أحزاب المعارضة وهو حزب الشعب الجمهوري الذي رفض نوابه التصويت بالموافقة على طلبه بالمضي في هذا التدخل بحجة أن هذا التدخل سيفاقم الأزمة بدلا من حلها، إلا أنه حصل على تلك الموافقة -التي لاتعني إلا الشعب التركي- بموجب تركيبة البرلمان الذي يسيطر أردوغان عليه بالأغلبية التي تواليه وتطمع في بعض الامتيازات.

طبعا هو لم يرسل سوى بعض الضباط من الأتراك للتدريب والاشراف وتشغيل المعدات كما يقول، ،أما الجنود الذين سيتعرضون للموت فهم من المرتزقة السوريين الذين دفعت تكاليف تدريبهم قطر وباتوا رهن اشارة أردوغان لتنفيذ أعماله القذرة في المنطقة، وجميع تلك الأعمال لا تخضع لقوانين الحروب وقواعد الاشتباك حيث لا قانون يحميهم. وبالمناسبة يتداول بعض المتابعين مايفيد بأن أولئك المرتزقة وعدوا بالحصول على الجنسية التركية في حال انتهاء المعارك لصالحهم، وقد شاهد العالم كيف أن جنودا أتراك عادوا في التوابيت إلى تركيا مايعني أن أعدادا منهم كانوا في محاور القتال.. ولعل هذا التطور الذي لم يكن يتوقعه أردوغان أو كان يتوقعه كان الدافع لاسجدائه دعم حلفائه الروس في التجارة والسياسة.. وكذلك استجداء الأوروبيين لممارسة ضغط على الجيش الليبي بعد أن وجد نفسه في ورطة أمام شعبه الذي سوق لهم بأن أبناءهم لن يموتوا لأنهم لن يخوضوا المعارك.

الموقف المستغرب الذي تبنته كل من قطر والسودان والدول المغاربية موقف ضبابي وفيه دفن الرأس في الرمال ولا يوجد ما يبرره بتاتا، كما أنه لا يصب إلا في خانة الموافقة على طلب السراج أن تتدخل تركيا في شأن من شؤون إحدى دول الجامعة العربية، وقد حاول كل منها الاستناد إلى حجة الشرعية الدولية مدفوعة بدوافعها الخاصة التي تستند إلى اتقاء شر المهددات الأمنية، كما أن معظمها تربطها علاقات متعددة المصالح لاسيما قطر التي تتفرد بمواقفها المتماهية كليا مع مواقف أردوغان الشخصية.

موقف هذه الدول فضلا عن غرابته وضعف حجته المبدئية.. فإنه سيتسبب في خلافات جديدة عربية عربية، كما أنه لن يخدم علاقاتها ببقية الأشقاء في وقت يفترض أن يتكاتف فيه العرب.. خاصة في حالة السودان على وجه الخصوص وهي الدولة التي تحكمها اليوم قيادة جديدة وصلت بعد أن أطاحت ثورةٌ شعبيةٌ نظاما كان يساند حكومة الوفاق التي تسيرها ميليشيات تابعة للقاعدة وجماعة الإخوان “المسلمين” كان يساندها بالسلاح والخبراء العسكريين كما أنه كان عاملا رئيسيا في انهيار الدولة الليبية حيث سبق وأن قال رئيس النظام السابق عمر البشيرعلى الملأ وفي بث مباشر إنه أرسل السلاح إلى الليبيين ليسقطوا نظام القذافي وبالتالي فهو شريك أصيل في مقتل مئات الليبيين، وشريك أصيل في دعم ميليشيات فجر ليبيا التي يقودها عبد الحكيم بلحاج الذي قاد معارك إسقاط القذافي، وقد كان يزور السودان ويقيم فيها بين الفينة والأخرى، ويتلقى تمويله الآن لتحريك ميليشياته من قطر ومن تركيا التي يقيم فيها. كما أنه منسق عملية نقل المرتزقة والدواعش السوريين الذي دربهم وسلحهم أردوغان من تركيا إلى ليبيا عبر شركة طيران الأجنحة الليبية التي أنشأها في العام 2014، وربما لا يعرف البعض أن هذا الشخص مرتبط بتنظيم القاعدة ارتباطا مباشرا وقاتل إلى جانب زعيمها بن لادن لذلك كان يعرف بأمير الجماعة الليبية المقاتلة. كما أنه ظهر في لقطات فيديو مشهورة برفقة ضابط مخابرات قطري في قصر باب العزيزة الشهير.

والغريب أن السلطات السودانية الحالية نسيت تماما أنه منذ أشهر قليلة أفشل السودانيون مخطط أردوغان لتأجير جزيرة سواكن لإنشاء قاعدة عسكرية فيها، واليوم تختار الخرطوم الوقوف إلى جانب من يتشدق بشرعية منقوصة ومكذوبة ويتمادى في تمكين الإرهابيين من ليبيا ويتعاون مع أردوغان في تحقيق ذلك، فكيف يستقيم هذا الأمر؟ وكيف كانت آلية اتخاذ هذا القرار الذي لا يشبه مرحلة ما بعد نظام البشير شكلا وموضوعا، قرارا بهذه الأهمية ستكون له تبعات في جميع مستويات علاقات السودان بدول الجوار التي تقف ضد التدخل التركي ووقفت ضد محاولات أردوغان اقتحام منطقة حوض البحر الأحمر وبناء قاعدة عسكرية ليحقق أحلامه.

 في أسوأ الافتراضات كان السيناريو الأفضل هو الامتناع عن التصويت (النأي بالنفس) مع كل ما لذلك من سلبيات، وهو سيناريو تلجأ إليه الدول في حالات معينة حتى لا تقحم البلاد في مشكلة أو تفتح عليها جبهة خلافات قد تكلف البلاد وقتا سيضيع في انتظار ترميم العلاقات التي ستتضرر لامحالة.

لا بد من إعادة صياغة قواعد الدبلوماسية السودانية فيما يخص علاقات السودان بدول الجوار بما يحقق مصلحة المواطن السوداني بالدرجة الأولى، وبما يتماشى مع مبادئ ثورة ديسمبر التي ثارت على نظام كان جزءا من تنظيم الإخوان الدولي الذي عمل على تدمير المنطقة العربية في مضمار السياسة، وليس هناك أفضل من المواقف المبدئية داخليا وخارجيا فيما لانرتضيه لأنفسنا من أذى لن نرتضيه لغيرنا، أما سياسة خالف تعرف فلن تكون في صالح السودان أبدا، إضافة إلى أن المثالية الزائدة في التعامل مع القرارات الدولية والقانون الدولي الذي يخترق عشرات المرات يوميا ستؤدي بنا إلى عزلة إقليمية لا تحتملها ظروف البلاد خاصة في حال تقاطعت السياسات الخارجية مع سياسات تضعها جماعة الإخوان في بعض دول المنطقة، تلك السياسات التي لم ولن تفلح إلا في جلب الدمار والخراب على من انخدعوا ولازالوا ينخدعون بمشروعهم. وإن أردنا أن نعمل على مايفيد الشعب السوداني فلنساهم في إبعاد شر هذه الجماعة عن بقية دول المنطقة بما لا يضع السودان في موقف حرج، حتى نسهم في مواساة شعوب انخرط في تعذيبها وقتلها وتشريدها نظام الإنقاذ الفاشي كالشعب الليبي الشقيق.. آخذين في الاعتبار أن مثل هذه المواقف الواضحة من العدوان على دولة جارة لن تؤثر في أي من مسارات رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب بل ستصب في مصلحة الملف وتعجل بنتائجه المرجوة.