الدقة يا سادة..
بقلم محمد شمس الدين
أدهشني قرار السلطات السودانية المفاجئ الذي صدر عن وزارة شؤون مجلس الوزراء و سلطة الطيران المدني السوداني والذي نص على إيقاف رحلات الطيران بين السودان وثمان دول فقط أهمها الجارة مصر، وذلك على خلفية إعلان منظمة الصحة العالمية تصنيف وباء فايروس كورونا جائحة عالمية واتهامها بعض الحكومات بالتقصير في اتخاذ مايلزم من إجراءات للحد من انتشار الفيروس..
مرد هذا الاندهاش أولا أن المواطن البسيط خرج من حسابات خلية إدارة الأزمة وأي مسؤول سوداني .. فمصر بالنسبة للسودانيين ليست بالدولة التي يسافر الناس إليها فقط من أجل السياحة .. ويعرف الجميع أن ارتباط السودانيين بمصر ارتباط متعدد المصالح وعلى رأسها العلاج والتجارة والدراسة وصلة الأرحام ..ولا يخفى على أحد نوعية علاقات القربى بين المصريين والسودانيين.
ولا أجد تفسيرا كيف يتخذ قرار بهذه الحساسية خلال ساعات دون تهيئة المعني الأول به.. والا فإن الأمر يبدوا كأن الأفضل أن لايعودوا إلى السودان لأنكم خائفون على سلامتهم والبلد بات موبوءا أو أنهم متخوفون من نقلهم للفيروس.. طيب .. قلتم بأن الفيروس عالمي وهناك تعليمات موحدة من منظمة الصحة العالمية وقلتم بأنكم على أتم استعداد وأرسلتم معدات لتهيئة أماكن إيواء للحجر الصحي في المعابر ..
أضف إلى كل ذلك أن الحالة التي توفاها الله لم تأت من مصر بل من الامارات وأجرى فحوصات تأكيدية في معمل ستاك الذي يرسل عيناته لألمانيا للتأكد من صحتها وثبتت سلبية العينات.. هذا يعني أن الرجل قد يكون أصيب داخل السودان من مخالطته لمصاب آخر من دولة من الدول التي لم تذكر في القرار الغريب .. هذا هو لسان الحال يا سادة يا كرام.
هناك من كان في زيارة علاج وكان عائدا للخرطوم وهناك من كان مسافرا لرؤية أبناءه وحيل بينه وبين ذلك وهناك من هو عائد بعد نهاية إجازة من عمله لكنه لن يتمكن من ذلك، وآخرون تعطلت مصالحهم وارتباطاتهم والسبب هو القرار المفاجئ غير المدروس وغير المنطقي بكل صراحة.
ماتابعناه من إجراءات لمعظم الدول التي سارعت لاتخاذ إجراءات وقائية يكشف حجم التدابير التي اتبعت في مختلف الدول والتنسيق مع البعثات الدبلوماسية لإيقاف الرحلات بشكل تدريجي ومنح مهلة لمن أراد السفر ذهابا أو إيابا.. وهذا مالم تفعله السلطات المعنية.. وبسبب قرارها غير المدروس فإن هناك من لم يتمكن من السفر بعد وصوله لمطار القاهرة بعد صدور القرار النهائي بالتوقف عن استقبال أو إرسال الرحلات مع ثمان دول من ضمنها مصر..
القرار سبقه قبل سويعات من اصداره قرار بتقليص عدد الرحلات للشركات الدولية لرحلة واحدة في اليوم لكنه ما لبث أن تم تعديله.
هذا القرار المتسرع تسبب في تقطع السبل بمئات المسافرين في مطار القاهرة وفي المعابر البرية حيث لا يخفى على أحد أن المواطن السوداني يقوم بصرف كل ما يملك من الكاش على الحاجيات الضرورية والهدايا ومازال النظام المصرفي السوداني معزولا عن النظام المصرفي العالمي .. وفي حالات كهذه لا توجد إمكانية مادية في آخر يومين على أقصى تقدير عند 95 % ممن يزورون مصر للأسباب آنفة الذكر..
والذي يزيد الدهشة أن الجهة التي أعلنت إيقاف الرحلات الجوية والبرية لم توفر العالقين مكانا للاقامة.. لكنها وعدتهم بالسفر عبر تذاكر السفر التي يحملونها وقت الاعلان عن حل من السلطات .
لن يمنع قرار مماثل بأي حال من الأحوال وصول الفيروس إلى جغرافية السودان بما أن الفيروس بات عالميا وينتقل إلى الانسان عبر وسيط وحيد هو الإنسان.الذي سيدخل قادما من دول أخرى موبوءة.. كما أن معظم دول منطقة الشرق الأوسط وصلها الفيروس بل نتشر في بعضها بأضعاف عدد حالات الإصابة في مصر.. و مثال على ذلك قطر التي تجاوز عدد الإصابات فيها ال 262 حالة حتى وقت كتابة هذا المقال ولم يرد اسمها في القرار .. البحرين نموذج آخر تجاوز عدد الإصابات فيها 200 حالة، الكويت سجلت فيها 72حالة، دولة كبرى لم يشملها القرار هي الولايات المتحدة وقد تجاوز فيها عدد الإصابات أضعاف ماسجل في مصر ( أكثر من ألف ومائتي إصابة و32 وفاة) ..
فيدريكو غاتي.. صحفي إيطالي وضع نفسه في حجر صحي في لندن بعد أن نشر صورة عن غياب الإجراءات الوقائية والفحوصات اللازمة في مطار هيثرو الشهير وقد وصل إليه قادما من مدينة ميلانو مركز الوباء في إيطاليا .. لقطة فيدريكو أحدثت ما يشبه الفضيحة حيث أكدت اتهام منظمة الصحة لبعض الدول بأنها لا تفعل ما يلزم للحد من انتشار الفيروس.. ربما يقول قائل بأن الكاميرات الحرارية تقوم بما يلزم في الكشف عن الحالات المشتبه بها .. أجيبه أنه بعد يومين فقط من نشر تلك الصورة أعلن عن إصابة وزيرة الصحة البريطانية! بل خرج رئيس وزراء بريطانيا ليعلن في بيان مؤثر فقدان السيطرة على الوباء في بريطانيا والبدء في خطة بديلة لإبطاء انتشاره واصفا الوباء بأنه أسوأ أزمة صحية منذ عقود، وقد سجلت بريطانيا حتى لحظة كتابة هذه الأسطر 569 حالة مؤكدة .. لكن وبحسب BBC فإن مسؤولا بريطانيا رفيع (المستشار العلمي للحكومة) توقع أن يكون العدد الفعلي بين ٥٠٠٠ و ١٠٠٠٠ حالة!
هل ورد اسم بريطانيا على لائحة قرار السلطات السودانية؟ الإجابة للأسف لا.. هل تصل طائرات مباشرة من مطار هيثرو إلى مطار الخرطوم ؟ الإجابة نعم و الجميع يعرف قصة خط هيثرو وارتباطه بالسودان ..
ألمانيا.. بلجيكا .. سويسرا .. وغيرها لم يتطرق لها القرار كذلك.. إذا فما هي خلفيات اتخاذ القرار ومالهدف منه وماهي آلية تقدير الموقف ومراقبة الوضع الداخلي خاصة وأنه ومنذ ظهور الفيروس في الصين والآلية التي تتبعها الخرطوم هي آلية الحجر المنزلي والمتابعة الهاتفية مع القادمين من بلدان تسلل إليها واجتاحها الفيروس .. كما أن من خالطوا الحالة التي أعلن عن وفاتها جراء الفيروس لم يوضعوا مباشرة في الحجر الصحي الاحتياطي بعد اكتشاف إيجابية الحالة على الفور كما يحدث في جميع دول العالم ! وهذا يطرح تساؤلات عديدة عن مدى تقدير السلطات الطبية لهذا الوباء وخطورته..
و لابد من تسليط الضوء كذلك على مشكلة عدم تدفق المعلومات بشكل متجانس وموحد لجهات الإعلام المكلفة بإبلاغ الرأي العام، حيث مازالت كل جهة تصرح بطريقتها وبصياغات غير دقيقة ومفتوحة التوقيتات، الأمر الذي عكس حالة من عدم التنسيق الدقيق الذي تعاني منه المؤسسات المعنية بمتابعة التطورات المتلاحقة والمرتبطة بأزمة جائحة كورونا العالمية..
تضارب المعلومات فيما يخص توقف الطيران التجاري بدأ مع تداول خطاب مسرب -بتاريخ الحادي عشر من الشهر الجاري- صادر من مدير مطار نيالا الدولي والذي يوضح فيه للمدير العام لوزارة الصحة بولاية دارفور أن هناك نشرة موزعة بعدم استقبال الطائرات من مصر ، لكن وحيث أن الخطاب كان معنونا ب (إخطار بقدوم طائرة تابعة للأمم المتحدة) لم يكن دقيقا في صياغته فأحدث ربكة على نطاق واسع ثم تلاه قرار بتقليص الرحلات ثم قرار الإيقاف الكامل مع ثمان دول.. وفي تقديري فإن ذلك الخطاب تم تسريبه عمدا حيث أن المنطقي أن تخاطب وزارة الصحة سلطة الطيران وأن تخاطب سلطة الطيران مطارات السودان وليس العكس.
المتوقع أن تنتقل وكالة الأنباء السودانية بمنصة لها بتمثيل رفيع لتكون ضمن خلية إدارة الأزمة المشكلة من خبراء طوارئ وخبراء أوبئة ، خبراء أرصاد جوية، خبراء من سلطة الطيران المدني بمشاركة الوزراء المعنين كالخارجية والصحة والإعلام والدفاع والتعليم وغيرهم
مهمة هذه اللجنة هي دراسة وتحليل الطوارئ وتطوراتها ورفع توصيات لمجلس الأمن والدفاع -الذي يضم في عضويته رئاسات هياكل الحكم والوزارات السيادية- لأخذ العلم بها وتقدير الموقف المرتبط بالأبعاد الدولية الاقتصادية والاجتماعية الانسانية والسياسية لاسيما ما يرتبط منها بدول الجوار.. ولعل الأهم هو استطلاع أوضاع الجاليات عبر الإدارة القنصلية في الخارجية قبل نشر أي خبر أو معلومة تتعلق بحركة التنقل المرتبطة بمصالح المواطنين..
لقد عاش السودانيون يومين شديدي القسوة معنويا وبدنيا بسبب عدم الدقة في نشر المعلومات وتسريبها بشكل يدعوا للريبة.. واتخاذ قرارات متسرعة وتأجيل مؤتمر صحفي لثلاث مرات.
تناول أمر فيروس كورونا بات مسألة إنسانية لا يصح التعامل معها بنوع من الريبة أو القلق الفردي .. ولابد من التشاور فيها مع دول الدول التي تستضيف الجاليات السودانية بشكل شفاف .. والا فإن الأمر سيفسر على انه توظيف سياسي لحدث إنساني..
الأمر يتطلب حلا يتضمن تعديل قرار الإيقاف الأول ويشمل فتح المعابر والطيران ل٣ أيام على أقل تقدير بالتنسيق الكامل مع مصر مع الإبقاء على عمل المعابر والطيران لتبادل البضائع مع تشديد إجراءات الفحص الطبي في الاتجاهين.. وإلا فإن إغلاق المعابر يعني عدم الثقة في الاجراءات التي اعتمدت.. ولا يستدعي الأمر أن يفاخر أحد بإغلاق المعابر تحت أي ظرف.. خاصة أن كان هناك تناقض..
آمل أن يكون المسؤولون على دراية كاملة بأن المعلومة بات ملك الجميع وأن المواطن الذي يقطن أقاصي البلاد يستطيع الحصول على المعلومة عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي.. كما آمل أن يبتعدوا عن الشعبوية ومدح الذات فيما يخص الملفات الإنسانية.. ولديهم كل المساحة في الشأن السياسي.